ياسر فاروق.. ضحية الأيام الأولى للانقلاب
كان يوم الجمعة 5 يوليو/تموز 2013، الذي جاء بعد يومين من تاريخ الانقلاب العسكري في مصر، في طليعة أيام الدم والأحزان التي عصفت بالمصريين، وظلت أمواجها تعلوا حتى وصلت ذروتها في مذبحة فض ميداني رابعة والنهضة، وبطل قصتنا أحد ضحايا هذا اليوم.
ياسر فاروق (٢٧ عاما) من محافظة الإسكندرية، كان يعمل مدرسا للغة العربية لطلبة المرحلة الإعدادية، متزوج وله طفلة اسمها ريماس، لم تهنأ بصحبته، حيث رحل عنها وقد بلغت عامها الثاني.
في أحداث العنف التي افتعلتها قوات الأمن والبلطجية بمنطقة “سيدي جابر” في مدينة الإسكندرية يوم الجمعة 5 يوليو 2013، أصيب ياسر برصاص حي “9 ملم” بمنطقة أعلى الفخذ، وجرت محاولة إسعافه وتم إدخاله العناية المركزة، والتي ظل فيها يومين إلى أن توفي متأثرا بالإصابة.
كان ياسر حسبما يراه أحبابه وأصحابه، طيب القلب، يتمتع بدماثة الخلق وطيب المعشر، ومعروف بمواقفه الصلبة وثباته على مبادئه، لا يقبل المساومة عليها ولا تبديل ما هو مقتنع به.
كان حافظا لكتاب الله، له صوت عذب ندي، ودعاؤه الخاشع يجعل الأفئدة تتذلل بين يد الله عز وجل، وحسب معارفه، فقد كان ترنمه بالقرآن وتلاواته الخاشعة تخترق القلوب وترققها، فيما يدفع دعاءه النفوس إلى التوبة والإنابة لبارئها.
أحد أصدقائه، ويدعى عاصم شحاته، كان يعتبر ياسر أكثر من صديق عابر، فهو في مقام الأخ المقرب، وذلك منذ تعرف عليه في المرحلة الثانوية، وكان صاحب فضل عليه في تعلم تجويد القرآن، حيث كان يستثمر معه الدقائق المعدودة بين حصص الدراسة ويعلمه حكما من أحكام التجويد.
ولم يكتفيا بذلك، بل كانا يمكثان معا في بعض الأحيان بعد وقت المدرسة، حتى الساعة الرابعة، وربما قضوا الوقت في الحديث أو التعلم أو غيره.
يتذكر عاصم صديقه ياسر في مناسبات مختلفة، ومنها يوم ميلاده حيث كان يصادف اليوم التالي لميلاده هو، وكانا يتشاركان في الكثير من الأنشطة ويخرجان كل خميس للتنزه سويا، ويلتقيان في صلاة الجمعة، ولا ينسى آخر رسالة له في يوم ميلاده والتي كتب له فيها “”ليس الحب أن تبقي بقرب من تحب، ولكن الحب أن تبقي بقلب من تحب”.
الخصوصية التي شعر بها عاصم مع صديقه ياسر لم تكن حكرا عليه، فذات الأمر تستشعره من حديث صديقه محمد شوقي، فهو كذلك يعتبره أخا أكبر، ومنه تعلم كتاب الله، والأخلاق الحميدة، كما أنه كان قريبا إلى قلبه، كثير المزاح معه.
ولشدة تأثره باستشهاده، لم يستطع محمد شوقي حضور جنازة صديقه ياسر، فقد كان في حالة إنكار للأمر لا يكاد يصدق أنه لن يلقاه مرة أخرى، وقال في ذلك “تعودت أن أصلي معه لا أن أصلي عليه.
فيما يتعجب صديقه عصام جاد، من مكانته وأثره فيقول، في ذلك “.. حين كنت بيننا أحبك كل من عرفك وحين فارقتنا احبك كل من سمع عنك” لافتا إلى أنه اجتمع في ذلك من عرفوه لسنين ومن لم تتجاوز معرفتهم إياه أياما معدودة، إضافة إلى من سمع بأخلاقه ومناقبه.
لم يقتصر تفاعل ياسر وأثره الطيب فيمن حوله في مساحة تحفيظ القرآن وأماكن الجد، فقد كان حريصا على مشاركة أصدقائه أوقات المتعة، حيث يستحضر صديقه كريم عيسى، مشاركته لهم كل يوم جمعة لعب كرة القدم بعد صلاة الفجر في استاد الجامعة، وما كان يضفيه ياسر من مرح وفكاهة على اللقاء.
حتى من اختلف معه فكريا، كان يكن له احتراما ومحبة وتأثر لمقتله، ومنهم زميل دراسته “زيزو عزت”، والذي يقول إنه برغم خلافه الحاد مع جماعة الإخوان المسلمين التي كان ينتمي لها ياسر، إلا أنه كان يقول إن ياسر كان آية في الأخلاق، ما فرض عليه حبه واحترامه.
علاقة ياسر بالثورة والحراك قديمة، فقد شارك في فعاليات ثورة 25 يناير 2011، منذ أيامها الأولى، وفي ذلك تحكي زوجته عن تلك الأيام، حين كانت حامل ولا تستطيع النزول، لكنه كان ينزل كل يوم، وحكى لها عن مظاهر البهجة والسرور التي انتابته والمتظاهرين في القائد إبراهيم حين ألقى الرئيس المخلوع حسني مبارك خطاب التنحي، وكيف أن الجميع تعانقوا ابتهاجا بالخبر.
تأسف الزوجة المكلومة على تغير الكثير من الثوار وانقلابهم على أهدافها، وتقول ربما كان من عانقك يا ياسر أحد من شارك في قتلك وابتهج للأمر، فالكثير منهم يقول الآن “هو إيه اللي وداه هناك”، وبعض من جيرانك ممن شاركك في تنظيم اللجان الشعبية، فرحين الآن، ويشغلون ليل نهار أغنية “تسلم الايادي”.
في اليوم المشهود، خرج ياسر مع زوجته حاملا ابنته “ريماس” بإحدى يديه ويمسك بيده الأخرى زوجته، وكان يهتف “سلمية.. سلمية”، لكن ذلك لم يشفع له، وأصيب برصاصة، لتحرم ابنته من ذلك الكتف، وتحرم الزوجة من ذلك الكف الحاني.
شيع جثمان ياسر جمع غفير من أهالي الإسكندرية، جاءوا من كل حدب وصوب، والكثير منهم يذرف الدموع، فيما علت الهتافات الغاضبة المؤيدة للثورة، والمطالبة بحق الشهداء والمصابين، ورفعت الأكف داعية الله بالانتقام ممن كان سببا في إراقة دماء الشباب بشوارع مصر.