محمد أبو السعود.. محب العمل الخيري
في ذكراه السابعة، يجدد الأب المكلوم بث مشاعره تجاه بكره الشهيد كما اعتاد كل عام، ويسطر عبر صفحته نسيجا يجمع بين الرضا التام بقضاء الله وقدره، والحنين لفلذة كبده، مع تعزيته نفسه بالأمل في لقاء لا فراق بعده في جنات الخلد.
محمد عبد المنعم أبو السعود (18 سنة) كان طالبا بالفرقة الأولى في كلية دار العلوم جامعة المنيا، قضى برصاص قوات الأمن خلال مشاركته بإحدى المسيرات الرافضة للانقلاب العسكري في الثالث من يناير/كانون ثاني 2014، بمدينة المنيا.
يجد الوالد صاحب الحنجرة الذهبية، والذي عرف بصوته المميز في إذاعة القرآن الكريم، سلوته في التسليم لأمر الله، وتأكيد رضاه بقضائه وقدره، ثم الرضا باختيار ولده، ويعاود التأكيد في الذكرى السابعة أنه حتى لو عاد محمد إلى الدنيا فلن يقف أمام مساره وأن يجود بنفسه ويجهر بالحق وينتصر لمبادئه.
أصيب محمد برصاصة، اخترقت رقبته ونفذت إلى قلبه وهتكت أمعاءه قبل أن تخرج من ظهره، خلال مسيرة سلمية نظمها رافضوا الانقلاب العسكري أمام مسجد عمر بن الخطاب في مدينة المنيا (جنوب القاهرة) يوم الجمعة الثالث من يناير/ حزيران 2014، ليسقط شهيدا على الفور.
وحسب شهادة والده، فإن الشرطة تعاملت مع المسيرة بعنف شديد، ولم تلتزم حتى بالإجراءات التي قررتها سلطات الانقلاب، فلم تستخدم المياه أو القنابل المسيلة للدموع لتفريق المتظاهرين، بل حتى لم تستخدم رصاص الخرطوش، وإنما كان التعامل مع المسيرة بالرصاص الحي مباشرة.
يتهم الوالد قوات الشرطة التي هاجمت المسيرة بقتل نجله، ويشير إلى أنه كتب في شهادة الوفاة أن سببها إصابة، دون تحديد طبيعتها، ترتب عليها تهتك في الأمعاء وصدمة، ورفض وكيل النيابة المعاين أن يثبت فيها أن الإصابة كانت برصاص قوات الأمن.
تمنى محمد الشهادة على أعتاب الأقصى، وكان يحب ربط نفسه بذلك الأمر، فهو “عاشق الأقصى” في بعض حساباته بمواقع التواصل، كما أنه تشرب هذه الأمنية من والدته التي شجعته على الامتزاج بها والعيش لها، ومع تخوفه من أن تتحقق على يد عسكر بلده، كان يطلب الدعاء بالشهادة عند مشاركته في فعاليات رفض الانقلاب.
تحكي والدته عن شقيقته الصغرى ضحى، التي كانت تبلغ من العمر 5 سنوات، كيف أنها استيقظت من نومها بعد استشهاده بأيام وهي ضاحكة مستبشرة، وتحكي حلما رأت فيه شقيقها محمد وقد خرج من جوهرة مضيئة كالشمس، ثم هرعت إليه وحضنته وقبلته، وطلبت من والدها الذي كان رفقتها في الحلم أن يكمل حكاية أجزاء لا تتذكرها.
تقول الأم إن نجلها محمد كان بارا مطيعا خدوما، وحتى في حال حدوث ما قد يقع من الأولاد في بعض الأحيان، يمازحهم بقوله، ربما أضايقكم حينا ولكن أسعد بأن أطيب خاطركم بعدها وألتمس رضاكم، وتؤكد أنها لم تقف أمام مشاركاته في فعاليات رفض الانقلاب بل كانت تشجعه، وتبث لديه روح حب الشهادة والسعي إليها.
تشير إلى أنها اعتادت عند كل خروج له للمشاركة أن تودعه وتدعو له وتطلب منه أن ينتبه لنفسه، ثم تقول استودعتك الله، وتدعو أن يعود سالما غانما، إلا أنها في المرة الأخيرة اكتفت بأن تقول استودعتك الله، فكانت إرادة الله أن يسترك وديعته.
أحب محمد أبو السعود العمل الخيري، وكان ينشط فيه عبر مسارات متعددة، فحِينَا مع متطوعي جمعية الرسالة، وحينا آخر مع أصدقائه، وربما برفقة والدته خلال شهر رمضان، حيث اعتادت الأسرة توزيع شنط رمضان ووجبات للمحتاجين.
وكان لهمته في العمل الخيري خلال رمضان، يفوته في أحيان متعددة تناول الإفطار في موعده بعد صلاة المغرب، ويستحث والدته لإعداد وجبة سريعة حال رجوعه مع أذان العشاء حتى يدركها مع صلاة القيام.
تحكي والدته في هذا السياق، كيف أنه كان يدخر مصروفه الخاص للمساهمة به في عمل الخير، وحين تستعد الأسرة لتوزيع شنط رمضان، يجمع بنفسه بيانات ذوي الحاجة من أصحاب المهن البسيطة، ومع ذلك كله، لا يتأخر في إنجاز عمل طلب منه.
كان ودودا ذا عقل وحكمة رغم صغر سنه، حريصا على مصادقة الآخرين وخدمة أصحاب الحاجة، وخلال مشاركته في اعتصامي رابعة والنهضة، كان حريصا على خدمة من معه ومبادرا في الاستجابة لأي مطلب يصدر في حضرته.
شارك محمد في فعاليات الثورة الأولى رغم صغر سنه، ولم يغادر ميدان التحرير خلال الثمانية عشر يوما إلا لتغيير ملابسه، وكان يحدث أسرته في تحد، بأنه ورفقاءه لن يتركوا الميدان حتى رحيل الطاغية، وبعد استشهاده تتابعت الرؤى والمنامات التي تبشر بحسن مآله وبرضى الله عنه.
كان من الواضح أن بطل قصتنا اعتاد كتابة وصيته وتحديثها بين الحين والآخر، وكان آخر تحديث لها قبل نحو شهر من استشهاده، والتي تضمنت استشعاره أنها ستكون الأخيرة، وطلب فيها من الجميع حال استشهاده أن يكملوا طريق السعي للحق من بعده، وأن يتذكروه في دعائه، ولا ينسوا الدماء التي سالت في سبيل الحق.
شارك المئات في تشييع جنازة محمد أبو السعود في قريته تانوف التابعة لمركز ديرمواس بمحافظة المنيا، وفي اليوم التالي لاستشهاده، نظم طلاب بجامعة المنيا مظاهرة في حرمها للتنديد بمقتله ورفعوا صوره مرددين هتافات ضد الجيش والشرطة، ومطالبة بالإفراج عن طلاب معتقلين.