تبعه في مختلف محافظات مصر، وفي محافل دولية خارجها، وحرص على ألا يفوت أيا من مباريات ناديه المفضل “الأهلي”، رغم مخاوف تكررت لدى أفراد عائلته عند كل مباراة، والتي رغم حضورها، لم يتوقع أحد منهم أن يأتي اليوم الذي يسمعون فيه خبر وفاته، قبل أن يعود إليهم، محتفلا بفوز أو حزينا على خسارة.
محمد رشدي عبد الرؤوف (22 عاما)، من القاهرة الكبرى، كان قد أنهى دراسته في معهد الألسن، ومعروفا بولعه الشديد بلعبة كرة القدم، وعشقه للنادي الأهلي، الذي كان يعطيه من وقته ومشاعره الكثير.
اشتهر محمد بـ “رشدي الفنان”، وكان أحد قيادات “أولتراس أهلاوي” حيث كان قائد أوركسترا مدرجات “التالتة شمال”، حاملا “الترومبيطة”، خلف ناديه في مختلف محافظات مصر، بل لم يكتف بذلك، ولحق به خارج تراب الوطن.
قاد رشدي، أوركسترا الأهلي في تونس، خلال مباراة ناديه أمام غريمه الترجي، كما ساند المنتخب المصري في بطولة أمم أفريقيا بأنجولا عام 2010، ولحقه كذلك في السودان.
كان رشدي وجها مألوفا ومحبوبا لجماهير الأهلي داخل الاستاد، حيث عهدوه يعزف بكل حماسة على ترومبيطته، طوال دقائق المباراة التسعين دون كلل وملل، مرتديا نضارته النحيفة الملونة المميزة بشكلها، والتي عثر عليها على أرض استاذ بور سعيد عقب وفاته.
لم يخطر على بال أي من أفراد أسرة محمد رشدي، أن إخلاصه الشديد لناديه، وإصراره على مساندته في مختلف المحافل، سيؤدي به إلى لحظاته الأخيرة، لينضم إلى 74 من ضحايا مذبحة وقعت في الأول من فبراير/شباط 2012 وعرفت بـ”مذبحة بور سعيد“.
هذه المذبحة رأى فيها كثيرون عقابا جماعيا لشباب الألتراس، لدورهم المميز في ثورة 25 يناير، وهتافاتهم المعروفة في المدرجات والميادين ضد حكم العسكر، حيث تواترت شهادات ناجين من المذبحة برصد تعمد ملحوظ من قبل السلطات الأمنية بالغياب وترك الشباب يواجهون مصيرهم.
كان رشدي اجتماعيا حسن المعشر، ودودا يسعى دائما لاكتساب محبة الآخرين، وكان مخلصا في علاقاته، يحرص على التواصل مع أصدقائه في جميع مراحله، حيث لم يقطع علاقته حتى بأصدقاء الطفولة.
تقول شقيقته، كان محمد عاشقا للنادي الأهلي، وكان دعمه وتشجيعه لناديه على رأس أولوياته، ورغم خوفنا المتكرر عليه من المشاركة الدائمة في المباريات، إلا أنه لم يكن ليتوقف عن مسار اختاره وعشقه.
كانت والدته تحبه بشدة، وكانت تقول له، حين خروجه للالتحاق بناديه وتشجيعه: “تعالى بوسني (قبلني) وسلم علي يا محمد، عشان انت ممكن ترجع وما تلاقينيش” فكان يرد عليها “يا ماما أنا اللي هموت قبلك”.
في يوم المباراة التي شهدت الواقعة الأليمة، حاولت والدته إثناءه عن الذهاب، وقالت له: ” ما ترحش بور سعيد يا محمد.. فيها مشجعين مش كويسين” فكان رده عليها، “ما ينفعش يا ماما.. ما أقدرش ما أروحش”، فردت عليه “طيب علشان خاطري”، فقال لها “أنا لو مت هبقى شهيد”.
تؤكد والدته على طيبته وحسن خلقه، وتقول إنه كان نور عينها في هذه الحياة، وكان يتفقدها دائما، ولا يخرج من البيت حتى يسألها عما إذا كانت تحتاج أمرا يجلبه معه عند عودته، وكان الموت حاضرا في حديثه خلال شهره الأخير معها.
كانت علاقته مميزة بالجميع، فقد كان محبوبا في البيت والشارع، وفي جميع الأماكن التي يرتادها، وكان مطيعا، حنونا على أخواته البنات، وكان لا يتباطأ في قول “نعم وحاضر”، حسب حديث شقيقته عنه.
يوم المباراة، وكالمعتاد، كانت والدته وأشقاءه يتابعونه بين الفينة والأخرى، للاطمئنان عليه، لكن ومع وقوع الأحداث، لم يعد يرد على هاتفه، لكن لم يخطر ببال أسرته أن يصل الأمر إلى أن يكون أحد شهداء مذبحة بور سعيد.
كان ذلك الاستبعاد مبعثه، مشاركات سابقة لرشدي في محافل كروية لا تقل سخونة عن هذا المحفل، ورجوعه سالما، أو ربما بإصابات طفيفة، ومن ثم لم يكن التوقع ليتجاوز ذلك، حتى وصلهم الخبر الصادم.
ظل أفراد الأسرة يسعون لمعرفة أخباره، وتجمع أصدقاءه من كل حدب وصوب في شارعه وعلى مدخل عمارته يتلمسون ما يطمئنهم عليه، وحاول أشقاؤه وشقيقاته تبديد القلق الذي سيطر على قلب والدته دون فائدة.
وبينما هم كذلك، بدأت الأخبار تصلهم بأنه ضمن من أصيبوا في الأحداث، وتمنوا أن يقف الأمر عند ذلك، وبعد أن يئسوا من الحصول على الخبر اليقين، سافر عدد من أفراد الأسرة وأصدقائه إلى بور سعيد، وحين وصلوا، تأكدوا من خبر الوفاة.
جلبوا جثمانه للغسل والدفن، وأصرت والدته على أن تلقي نظرة الوداع الأخيرة، وحين رأته، قبلته وقالت إنا لله وإنا إليه راجعون، في الجنة ونعيمها يا محمد، لكن لم تتمالك نفسها بعد الخروج، وانهارت باكية، تاركة العنان لرصيد الحزن على فلذة كبدها.
لم يغب محمد عن خاطر والدته التي كانت متعلقة به بشكل كبير، وفي الذكرى الرابعة لوفاته، عبرت عن أمنيتها بأن تراه في المنام، مؤكدة أنه “لا يغيب عن مخيلتها ولو لحظة”، مستحضرة حواراته معها وحديثه الدائم عن حبه للأهلي، وترديده المتكرر لأغاني النادي.
وتتابعت فعاليات إحياء ذكراه في سنوات لاحقة، فيما حاول بعضهم التعبير عن تلك المشاعر بإعداد مقاطع فيديو تسجل ذكراه.
ظلت والدته أسيرة ذكراه، تعبر بين الحين والآخر عن شوقها إليه، حتى وافتها المنية ولحقت به إلى الرفيق الأعلى في السادس والعشرين من ديسمبر عام 2020، بعد نحو 8 أعوام من الشوق والحنين.