يحيى حواس.. الشهيد البار
أن تكون بارا بوالديك فذاك خلق واجب وحسن، لكن أن تكون مضرب المثل وصاحب الأنموذج، حيث لا مساحة لديك لضيق يلحقهما بسببك، ولا ملل من تقبيل يديهما كل صباح، فتلك العزيمة التي لا يقوى عليها إلا القليل، ومنهم بطل قصتنا.
يحيى زكريا حواس (23 عاما) من مركز البدرشين، التابع لمحافظة الجيزة، حصل على بكالوريوس نظم ومعلومات، من أكاديمية الفراعنة، واحترف العديد من المهن، ومن ذلك تجارة الدواجن، وصيانة الأجهزة المحمولة.
كان يحيى متميزا متعدد المواهب، أحب نشاط الكشافة والجوالة، وترقى فيه، وحرص في أغلب أيام اعتصام رابعة على المشاركة في تأمينه، ولذا كان في مقدمة الصفوف حين فضه، ليصاب برصاصة قناص في رأسه، وينال الشهادة في الساعات الأولى من يوم الفض.
نقل عن والده، أنه كتب تميزه بعلو الأخلاق والصفات الحميدة، وعدد ضمن ذلك، العلو في طاعته لوالديه، وضربه المثل في ذلك، والعلو في حب الناس وخدمتهم، وحب الأطفال وفتيان الكشافة، فكان يقضي معهم معظم وقته، والعلو في أخلاق الحياء، وصلة الرحم، والقناعة والرضا.
كان حسب وصف أحد معارفه، شابا نضر الوجه، جميل المحيا، هادئ الطباع، حلو المعشر، ومع ذلك شديد الحماسة، لا يوقفه عن الحق ونصرته شيء إلا الموت، وهو ما كان، وقد جعل الله له من اسمه نصيبا وافرا، فهو يحيى، والشهداء فقط هم الأحياء عند ربهم يرزقون.
تفخر به أمه، وتتحدث في محافل مختلفة عن بره بها، وصلاحه وطاعته لربه، وحبه للناس وخدمته لهم، وصلته لرحمه، وحب الناس له، وقدره عند أصدقائه وجيرانه، كيف لا، وهو الذي كان سهلا في جميع مراحل حياته، حتى في ولادته التي تؤكد أنها كانت من أيسر ما يكون رغم كبر حجمه حين الولادة.
تسترسل الوالدة الصابرة، في تعداد مناقبه ومآثره، فقد كان بشوش الوجه اجتماعيا، لا يحمل حسدا ولا حقدا ولا يغار من أحد، ومن ذلك فرحه الصادق في نهاية المرحلة الابتدائية بأحد زملائه من منافسيه حين حصد المرتبة الأولى، كما كان حسب وصفها، رجل المهام الصعبة.
لم يغضب والديه في يوم، وإن شك في تسرب الضيق إلى والدته منه، هوى سريعا إلى قدميها مقبلا إياهما ويديها وهو يبكي ويقول، “إلا رضاك يا أمي”، ولذا عرف بين أهله وأقرانه بالفتى البار.
كان محافظا على الصلاة منذ نعومة أظافره، خاصة الفجر، فحتى إن كان نائما في قمة التعب والإجهاد، كان يكفيه أن تناديه والدته مرة واحدة، ليستيقظ سريعا ويقبل يديها ويقوم للصلاة، كما كان شجاعا جريئا في الحق، لا يتباطأ عن معالجة أي خطأ يراه، ويحث أصدقاءه للمشاركة في التغيير.
كان يحيى إلى جوار نشاطه الدعوي ومشاركته السياسية، ينشط في عمل الخير والمشاركة المجتمعية عبر منافذ مختلفة، فأينما وجد مسارا يقدم فيه الخير للناس لا يجد غضاضة في استغلاله، وكان من نشطاء جمعية صناع الحياة بمحافظة الجيزة.
تمنى الشهادة، وشعر أنها قريبة منه، وحين طال الاعتصام وكثر خلاله سقوط الشهداء، كتب وصيته وأخبر والدته أنه تركها لها، وبعد استشهاده عثرت عليها، فوجدته قد خص كل فرد من أفراد العائلة برسالة فيها، وكذلك زملاءه، وحين كتبتها، احتفى بها الكثيرون، وقام البعض بطباعتها كمطوية لتعميم الفائدة منها.
استقبل والداه نبأ استشهاده في ثبات ورضا وهما يحاولان رفقة الآلاف الالتحاق به في ميدان رابعة، بعد أن تواردت أنباء فضه، حيث كانت قوات الجيش والشرطة تحول بينهم وبين دخول الميدان عند أحد مداخله.
تنقل أخته عن أحد أصدقائه، أنه قبل فض الاعتصام بيومين كان يقول له “أحسب أنني سأستشهد على أي حال.. فإن لم أستشهد في الفض، فإنني قد أنهيت دراستي ولابد سيتم تجنيدي في الجيش ويطلبوا مني إطلاق الرصاص على المدنيين المصريين، ووقتها سأرفض تنفيذ الأمر فيقتلوني وأصبح شهيدا أيضا”.
وفور بدء اقتحام قوات الانقلاب ميدان رابعة صبيحة الرابع عشر من أغسطس 2013، شارك يحيى في صنع جدار بشري مع آخرين لحماية المصابين والأطباء في المستشفى الميداني، ليصاب بطلقة في جبينه، ظل ينزف بعدها 24 ساعة حتى ارتقى شهيداً.
كتب يحيى في آخر منشور له عبر حسابه بموقع فيسبوك، قبل استشهاده بـ 3 ساعات، “بدأ الضرب في رابعة ادعولنا وكل واحد قاعد في بيته ينزل دلوقتي ينصر ويساعد إخواته، وسقوط أول شهيد بالرصاص الحي.. انزلوا كفايه سكوت وذل”.
تحكي والدته، عن تلك اللحظات، حينما ورد اتصال لزوجها من ابنتهم حماس شقيقة يحيى، والتي قالت لوالدها، مبروك يا أبي أصبحت أبو الشهيد يحيى، ثم تحدثت إليها وطلبت منها عدم البكاء، فردت بالقول، الشهيد لا يبك عليه.
شهدت جنازته التي خرجت بالتزامن مع خروج جنازة شهيد رابعة إسلام المتناوي، حشود غفيرة، حيث شارك فيها المئات، كما ظل المئات يتوافدون على بلدته البدرشين، يقدمون العزاء فيهما، لما كان له ولإسلام من شعبية جارفة في أوساط مختلفة.
تحكي شقيقته، كيف أنه وبعد استشهاده ودفنه بحوالي 5 شهور، توفي عمه الذي كان في مرضه قد أوصى بدفنه مع يحيى في نفس المقبرة، وحين نزل ابنه ليهيئ المقبرة لدفن والده، وجد جثمان يحيى كما هو لم يتحلل ولم يصب الكفن أي شيء.
تضيف شقيقة يحيى نقلا عن ابن عمها الذي كان يحكي لهم مستبشرا، كيف أنه وجد الدم الذي كان عند الدفن قد بلغ كتفه، قد بلغ عند دفن والده ركبة يحيى، وشعوره أنه في تلك اللحظات في قطعة من الجنة، حيث شم رائحة مسك لم يسبق له أن شهما، وظلت معلقة في جوربه 3 أيام.
لمح شقيقه ياسر في وجهه النور، خلال آخر لقاء جمعهم فجر يوم الفض، حيث قدم يحيى إلى الخيمة التي يقيم فيها بالاعتصام فجرا وسلم عليه وعلى من معه في الخيمة، قبل أن يفترقا كل إلى مكانه في الميدان، ليأتي ياسر نبأ استشهاد شقيقه عند الحادية عشر صباحا.
بلاء أسرته لم يتوقف عند استشهاده، فقد قامت قوات الأمن بمداهمة منزلهم عقب استشهاده بشهور، وخربوا محتوياته، ولم يشفع لهذه الأسرة ما كانت تعيشه من ألم الفراق، حيث اعتقلوا شقيقه ياسر، وعمدوا لصورة يحيى وكتبوا عليها السباب والألفاظ النابية له وللرئيس محمد مرسي الذي تم الانقلاب عليه.
ظل يحيى عالقا ولا يزال في خاطر أسرته وأهل بلدته البدرشين، واستمرت الفعاليات تنظم بتكرار أمام منزله، يتخللها الهتاف باسمه، والتأكيد على الوفاء لدمه والاستمرار على نهجه في نصرة الحق، وظل أقرانه وأحبابه أوفياء لذكراه في سنوات لاحقة، حيث نظمت الوقفات والمسيرات في ذكرى فض رابعة، وهتفت باسمه واسم غيره من ضحايا الفض.
مناقب يحيى التي عرفت عقب استشهاده كغيره من ضحايا فض اعتصام رابعة العدوية، فشاعت ليسمع بها الجميع، تركت الأثر لدى الكثيرين، ودفعت البعض لأداء العمرة ووهب أجرها له.