هيثم دحروج.. رمز الجراءة والرجولة
“الجرأة والرجولة والتفاني والشجاعة”، سمات بينها جوانب مشتركة، وأخرى تميز إحداها عن الأخرى، إلا أنها اجتمعت كلها في بطل قصتنا وقلما تجتمع في فرد.
هيثم محمد دحروج (35 سنة)، ابن قرية “نوى” التابعة لمركز شبين القناطر في محافظة القليوبية، والتي ولد فيها في الثاني عشر من مارس/آذار 1978، ونشأ وترعرع بها، ثم التحق بكلية التربية قسم طبيعة وكمياء في جامعة الأزهر، وتخرج منها، ليعمل مدرسا لمادة الكيمياء للمرحلة الثانوية.
عاش هيثم حياة صعبة، عانا فيها من شظف العيش وضيقه، وخلال سنواته الأولى بعد تخرجه والتي سبقت الثورة، مر بالكثير من الابتلاءات والصعوبات، وفي سبيل مواجهة صعوبة الحياة وتكاليفها، مارس العديد من المهن والأعمال، واضطر للاغتراب عاما لم يهنأ فيه براحة ولا سعة رزق
كان هيثم محبوبا بين أبناء قريته، اتفق عليه المؤيد والمعارض لأفكاره، فقد كانت أخلاقه آسرة لجميع من تعاملوا معه، ولكونه محسوبا على جماعة الإخوان المسلمين، فقد شاع في قريته تعبير، نتفق أو نختلف مع الإخوان لكن الجميع متفق على أخلاق هيثم دحروج.
حفظ هيثم دحروج القرآن كاملا، فكان مثالا حسنا للحفاظ العاملين، يتلمس فيه الخلق القويم، ويحرص على أن يسير على النهج النبوي بأن يكون “خلقه القرآن”.
إحدى أبرز تلك الأخلاقيات، الرجولة والتضحية ومن ذلك أنه كان معروفا بين أقرانه ومحبيه باسم “مستر إكس”، في تشبيه له بشخصية شهيرة معروفة في أحد الأفلام المصرية القديمة، كانت تُقَدِّم نموذج التفاني والمبادرة لإنجاز المهام الصعبة، وهو ما كان يراه عليه أصحابه وأقرانه.
قرين لهذه السمة، الجرأة في الحق، والشجاعة في المواقف الصعبة، يسهل على من يتعامل معه تلمس ذلك وإدراكه، حيث تميز بتلك السمات في دوائره المختلفة، وعن جميع معارفه، حتى باتت تلك الأخلاق مرتبطة بشخصيته، يُقَدَّم في المحافل المختلفة كنموذج ومثال لها.
وغير بعيد عن ذلك، ما تميز به كذلك من شهامة مرتبطة بطبيعة الحال، بما عرف به من رجولة، وله في ذلك قصص ومشاهد وأمثلة، يحكيها عنه من عرفه وعاشره، كما كان سباقا لخدمة من حوله، يساعد الجميع دون تفرقة، وينشط في أعمال الخير من خلال جمعيات أهلية، يساهم معهم بمجهوده ووقته.
أبواب الخير التي كان ينشط فيها متعددة، ما بين رعاية للأيتام والضعفاء والأرامل، ومساهمة في تجميع جلود الأضاحي لأبواب الخير، وتوزيع لشنط رمضان وأنابيب الغاز على أهالي القرية، وسعي للإصلاح بين المتخاصمين، وغيرها.
كانت له وجهة نظر يعبر عنها بين بين الفينة والأخرى بالقول والعمل، وهي أن عزة الإسلام والمسلمين واستعادة أمجاد الأمة، لابد لها من بذل دماء تضحية في سبيلها، لا دماء عنف وإرهاب، ولن يتسن بلوغها دون تقديم ذلك بصدق، وهو قول كان يردده ويصدقه عمله، حتى نال الشهادة التي كان يحلم بها كثيرا.
قتل هيثم دحروج ضمن المئات ممن قضوا في فض اعتصام رابعة العدوية، بالرابع عشر من أغسطس/آب 2013، وخلف وراءه بنتين وولد، أكبرهم لم يتجاوز العاشرة من عمره، ليترك حمل تربيتهم لوالدتهم التي فجعت فيه.
بكته ابنته آيات في لقاء قناة الجزيرة بأسرته في إحدى حلقات برنامج “أحياء في الذاكرة”، واستذكرت حنانه وعطفه عليهم، حيث تقول في فطرة “بابا كان بيروح معاي من المدرسة، وكان بيلاعبنا”.
كان حين بدأ فض ميدان رابعة، موجود فيه مع زوجته و2 من أبناءه، وبعد اشتداد الأمر وشدته، عمل على إخراجهم من الميدان ثم عاد إليه مرة أخرى، رافضا ترك من فيه وحدهم، وقال حينها “إما نعود بالشرعية أو نعود في الأكفان” وهو ما قد كان.
ظل هيثم ينافح ويذب عن نفسه ومن معه في الميدان قدر ما يستطيع بصدور عارية وأياد خالية من أي سلاح، ليسقط ضمن المئات الذين سقطوا في تلك المذبحة العظيمة، ما بين قتيل وجريح، حيث أصيب برصاصتين إحداهما في فخذه الأيمن والثانية في رأسه.
تقول عنه زوجته أميرة صلاح، إن هيثم كان خير زوج، فعلى مدار حياتهما الزوجية، لم تر منه ما يسوء أو يدعوا إلى “خصام وزعل” بينهما، ولم يكن بحال يتجاوز في حق أسرته رغم ما كان يعيشه من ضغوط حياتية مختلفة.
تحكي عن معاملته الراقية وأسلوبه المميز في إدارة حياتهما الزوجية، وكذلك معاملته لأطفال، فقد كان يهتم بجميع التفاصيل، ويحرص على تربية أبنائه تربية صالحة، ويراعي الله في كل حياته ومن ذلك ما تحتاجه أسرته الصغيرة.
وتؤكد زوجة هيثم دحروج، أن حرصه واهتمامه الفريد بأسرته لم يكن يؤثر على اهتمامه بالشأن العام والعكس كذلك، وفي هذا السياق، تؤكد مشاركته المبكرة في الاعتصام وذلك من يوم 28 يونيو 2013 حيث كان من اوائل من حضروا اعتصام رابعة العدوية، عقب ظهور مؤشرات وقوع الانقلاب العسكري.
يشاركها الشيخ عبد العليم درويش أحد أقارب هيثم، هذا التأكيد، ويستحضر ذكرياته مع بطل قصتنا، حيث كان دائم الحديث عن الشهادة واستعراض نماذج من التاريخ الإسلامي الذي كان يعشق القراءة فيه والإلمام بتفاصيله.
يضيف الشيخ درويش، “لم نكن نعلم أن هذا الحديث تمهيد، وأنه سيكون أحد هذه النماذج”، مضيفا، “هيثم قدم لنا نموذجا عمليا، نحن الذين احترفنا الخطابة والدعوة بالقول”.
وعن حاله خلال مشاركته في الاعتصام، يقول الشيخ عبد العليم “كان يحب أن يخدم الناس في الاعتصام، وكان من أوائل من يراعي حاجات الناس (..) ولم يكن مجلسنا في الاعتصام عاديا، فقد كان يذكرنا بين الفينة والأخرى بقصص الجهاد والثبات”.
مشاركة هيثم كانت سابقة على الاعتصام الذي كان أجله مكتوبا في نهايته، فحسب صديقه محمد إبراهيم، شارك هيثم في كل الفعاليات منذ ثورة يناير بميدان التحرير، بل من قبلها حيث كان من الفئة القليلة التي لم تتخلف عن مشهد تعلي فيها صوتها ضد الرئيس المخلوع حسني مبارك وضد فساده.
ظل هيثم في ذاكرة أحبابه وأقرانه يتذكرونه بالخير، وفي ذكرى استشهاده يتذكرون لحظات مواراة جسده التراب وهم لا يكادون يصدقون رحيله، ويؤكدون بقاءهم على عهده، حتى استيفاء القصاص له ولباقي ضحايا تلك المذبحة التي سجلت كأفظع المذابح في القرن الحالي.