معتز محمد.. رصاصة قناص تأبى الخروج
معتز محمد علي (29 عاما) من مواليد آخر أيام شهر أكتوبر من عام 1981، حاصل على بكالوريوس في مجال السياحة والفندقة، وكان يعمل بأحد المراكز التجارية، وكغيره من شباب مصر، رأى بصيص أمل في استخلاص حرية غائبة لعشرات السنين من خلال مسار ثورة اشتعلت شرارتها في 25 يناير 2011.
التحق معتز بركاب الثوار مع انطلاق حراكهم، وظل يهتف مناديا بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والحياة الكريمة، حتى أصابته رصاصتان من قناص، لينقل بعدها إلى مستشفى الهلال.
تحكي والدته عن لحظاته الأخيرة معها، وكيف أنها حين علمت بنيته الذهاب إلى الميدان، حاولت إثناءه عن ذلك، كما أنه حاول أن يصطحب شقيقته هنا معه إلى الميدان، والتي قالت إنها ندمت لعدم ذهابها معه، فربما عاد معها حين المواجهات خوفا عليها.
تقول الوالدة المكلومة، “في الساعة الأخيرة، كان بين الروحة والجاية قبل خروجه ينظر إليها نظرة كأنها نظرة وداع، ومع محاولتها إثنائه وإظهارها الخوف الشديد عليه، حاول طمأنتها بقوله إنه ذاهب للقاء أحد أصدقائه.
بعد إصابته ونقله للمستشفى ظل معتز راقدا بغيبوبة بين الحياة والموت 8 أيام في مستشفى الهلال، نتيجة إصابته برصاصتين في الرأس، الأولى تم استخراجها والأخرى ظلت مستقرة في المخ، ما أدى إلى فقدانه الوعي بشكل كامل قبل إعلان استشهاده.
طوال الفترة من 28 يناير الموافق ليوم “جمعة الغضب” وحتى الجمعة التالية، كانت أسرة معتز تبحث عنه في كل مكان، حتى وجدوا صورته منشورة في إحدى الصحف تحت عنوان “مصاب مجهول الهوية”.
يتحدث حازم شقيق معتز عنه، والذي كان يعمل حازم مترجما بالسعودية ورجع إلى مصر في ظل أحداث الثورة، حيث كان على اتصال دائم بمعتز حتى انقطع الاتصال وشعر الأخ الأصغر بالقلق على أخيه فعاد للاطمئنان عليه.
يقول حازم “تربيت مع معتز وأخواتنا البنات في ظل حنان أمنا التي لم تفرق أبدا بيننا، وورث معتز منها الحنان، وكان نعم الأخ بل والأب والعائل للأسرة، وكان أقصى طموحه قبل سفري للعمل في السعودية أن نحصل أنا وهو على أي وظيفة”.
يحكي حازم كيف أنه كان يفضله على نفسه، خاصة في مسار البحث عن فرصة العمل، وأثمر هذا التفضيل أن حصل على عمله كمترجم في السعودية، حيث آثر هو البقاء في مصر لمراعاة والديه وأختيه.
يستحضر كيف أن شقيقه معتز كان يتواصل معه بشكل يومي منذ يوم اندلاع الثورة في 25 يناير، وهو في غاية السعادة بما يحدث في مصر من تغيير، وكيف أنه كان يتمنى التواجد بالميدان في هذا الوقت لمشاركته لحظات التغيير.
تملك حازم القلق الشديد، والذي كان في محله، حينما انقطع الاتصال بشقيقه يوم جمعة الغضب، خاصة مع انقطاع شبكة الهاتف والانترنت، وحاولت الأسرة طمأنته وعدم إخباره باستمرار غياب شقيقه، لكنه تأكد حينما اتصل في مرة وردت والدته وكان صوتها حزين.
وحين انهارت والدته وأخبرته، قرر الرجوع على الفور، وهو في المطار جاءه اتصال من الأسرة ليخبروه أنهم وجدوا شقيقه شهيدا في المشرحة، فأكمل رحلته في حزن شديد، ليعلم بعد وصوله أن الجثة لم تكن لشقيقه.
بدأت بعدها رحلة البحث عن معتز في المستشفيات، لكن دون جدوى، وبعد أسبوع من جمعة الغضب، وجدوا صورة معتز في جريدة الجمهورية، بأنه مصاب مجهول الهوية، في مستشفى الهلال الأحمر.
وحين وصلت الأسرة، وجدته مصابا بطلقتين من سلاح “ميري” (تابع للشرطة)، بحسب تقرير المستشفى الذي أوضح أن الطلقتين بالرأس، واحدة منهما تم استئصالها بعملية جراحية، أما الثانية فعجز الأطباء عن استخراجها نظرا لاستيطانها في مكان خطر.
يحكي شقيقه حازم كيف تم خذلانه وأسرته حين حاولوا البحث عن أفضل المستشفيات لنقل شقيقه معتز إليها، وحين علم أن الأفضل هي مستشفى وادي النيل والمركز الطبي العالمي، ذهبوا إليهما فقيل لهم، لا نستقبل مدنيين.
لم ييأس حازم، واستخرج خطابا من وزارة الصحة يوصي بقبول حالة شقيقه في تلك المستشفيات، إلا أن الرفض تكرر بحجة عدم وجود مكان في الرعاية المركزة، رغم أنه حين تواصل معهم باعتبار أن الحالة مصابة في أحداث عادية لا علاقة لها بالثورة، أفادوا بأن الأماكن متاحة.
ظل معتز، في العناية المركزة بغيبوبة كاملة 21 يوما، حتى فاضت روحه يوم 20 فبراير 2011، وكان الطبيب المعالج يقول إن معتز إذا كتبت له النجاة من تلك الرصاصة، سوف يعيش أعمى ويعاني من تبول لا إرادي وإعاقة ذهنية وإعاقة جسدية.
لم تفلح كذلك مناشدات الوالد المكلوم للمشير طنطاوي بنقل ابنه لأحد مستشفيات القوات المسلحة، كما لم تفلح الدعوات الإعلامية والحقوقية لتقديم من أجرموا في حق معتز وغيره من شهداء ومصابي الثورة إلى محاكمة عادلة.
لا يكاد ينقطع دمع الوالدة، ففلذة كبدها كان كما تقول “أحلى شيء” في حياتها.. لم تنس “حنيته” عليها، بينما تلتقط آخر قمصانه التي ارتداها، وتقول إنها لم ولن تغسله لتظل رائحة عرقه تتذكره بها.
وبعد سنوات لاحقة، وإثر الحكم ببراءة الرئيس المخلوع حسني مبارك ورجال نظامه، أعلن شقيق معتز على صفحته بموقع “فيسبوك” عن تنازله وهو في كامل قواه العقلية عن الجنسية المصرية، وعدم انتماء لهذا البلد (حكومة ونظاما وقضاء)، والانتماء لجنسية أخرى ليس حبا بها أو فخرا، ولكن لأنها تحترم مواطنيها وتقدرهم وتحترم آرائهم وحريتهم.
كانت جنازة معتز مهيبة، حضرها المئات، بكاه فيها القريب والبعيد، وحمل المشاركون أعلام مصر، وازدحمت بهم الشوارع المؤدية إلى مثواه الأخير.