مصطفى عبد المنعم.. شهيد يحمل شهيداً
مصطفى محمد عبد المنعم (20 سنة)، شهيد الساعات الأولى لصباح يوم الإثنين الموافق 21 نوفمبر/تشرين ثان 2011، بعد أن استفزه ما رآه في شاشات التلفاز من استهداف مباشر للثوار بميدان التحرير وشارع محمد محمود، وتأثر كثيرا بمقتل أحمد شهاب، أحد شباب الألتراس، على يد رجال الأمن.
وحسب شهود العيان، فإن استشهاد مصطفى يأتي ضمن مسلسل الاستهداف المتعمد من قبل قوات الأمن لمن كانوا يقومون بدور الإسعاف للمصابين، والمشاركة بأدوار فاعلة في المستشفيات الميدانية خلال أيام الثورة ومراحلها المختلفة.
ودون علم والديه، شارك مصطفى الذي كان طالبا في السنة الرابعة من التعليم الفني، في أيام الثورة الثمانية عشرة الأولى، ولم ترهبه الدماء التي سالت على أعتاب ميدان التحرير وشوارع مصر، وإنما دفعته لتعلم أساسيات الإسعافات الأولية على يد أطباء من جيرانه، ومن حينها أصبح أحد المتطوعين الأساسيين بالمستشفى الميداني في ميدان التحرير.
تتواتر شهادات ذويه وأصدقائه عن كره الشديد للظلم، وتأثره البالغ بقصص من سقطوا شهداء في أيام الثورة التي سبقت يوم استشهاده، وبوحه لوالدته وعدد من أقرانه بتمنيه الموت شهيدا، وهو في سبيل ذلك يدثر بالخلق الحسن ورقة الطبع، ما جعل كثيرين لا يعجبون حين بلغهم نبأ قنصه، فالشهادة “لها أهلها وناسها” كما يقولون.
بدأت قصة استشهاد مصطفى، في ساعات صباح اليوم الثالث من الأيام المعروفة بأحداث محمد محمود، حين أصر على دخول أحد العقارات المشتعلة بأحد الشوارع المتفرعة من شارع محمد محمود، بعد أن علم بوجود من يحتاج إلى المساعدة فيها، وقام حينها بإنقاذ أم وأطفالها الثلاثة، وسط تشجيع من الحاضرين على إقدامه وتضحيته.
هذه الأجواء الاحتفائية لم تدم طويلا، حيث عكرها إلقاء كثيف لقنابل الغاز والرصاص المطاطي والحي من قبل قوات الأمن، بهدف تفريق المتظاهرين، ليصاب أحد الثوار بطلقة، الأمر الذي دع مصطفى لمحاولة إنقاذه، فقام قناص باستهدافه وإصابته بطلقة في كتفه.
لم يمنع ذلك مصطفى من الاستمرار في محاولة إسعاف المصاب، وحاول حمله على كتفه السليم، وهو الأمر الذي لم يعجب قناص الداخلية فعاجله برصاصة أخرى في رأسه، ليسقط مصطفى والمصاب الآخر شهيدين في نفس اللحظة، ويوصف المشهد بعدها بأنه لشهيد يحاول إنقاذ شهيد.
كتب مصطفى كلمات وأبيات في رثاء شهداء 25 يناير، وكأنه يرثي نفسه، ودون رسالة لأمهات الشهداء ولأحبابهم، وكأنه يبعثها لوالدته ومحبيه، يستحثهم فيها على عدم الحزن عليه، فالشهيد حسبما يرى وكتبه في رسالته، “نائم حتى يستيقظ في يوم ليس فيه إلا الحق والعدل، لينعم حينها بالجنة”.
وربما وجدت الأم بعض السلوى في رسالة ابنها، إلا أنها لم تطفئ لوعتها على وحيدها الذي كان ابنها البكر، ويكبر شقيقته بأربع سنوات، فقد كان “محور” حياتها و”أهم أهدافها” فيها، وكانت – حسب شهادتها – تشعر بأنها تعيش لأجله، ومن ثم فقدت بوفاته طعم الحياة، وباتت تتمنى اللحاق به والاجتماع به في الدار الآخرة.
لم تتقبل الأم المكلومة سعي جهات تابعة للدولة لإقامة سرادق عزاء أو حشد تأبين لابنها، واستحضرت المثل الشعبي “يقتل القتيل ويمشي في جنازته”، وأعلنت بوضوح أنه لن يشفي غليلها ويرضي فؤادها إلا تقديم القتلة لمحاكمة عادلة والقصاص ممن يثبت تورطه في قتل ابنها.
لكنها وكما الحال مع جميع أهالي شهداء الثورة، لم تتحقق آمالهم بعد، فما تشهده مصر من انتكاسة حقوقية، ووأد لمكتسبات ثورة يناير، يزيد لديهم مشاعر المرارة والأسى، ويتشبثون معه بإيمانهم بالعدل الإلاهي الذي لا تضيع في ظله الحقوق، وهو الأمر الذي صرحت به أم مصطفى بعد استشهاد ابنها بأكثر من عامين.
تظهر أم مصطفى امتنانها لوفاء أصدقائه، وحرصهم على ودها من حين لآخر، وتعبر لهم عن اعتزازها بتكريمهم لها في أحد أعياد الأم التالية لاستشهاده، إلا أنها لم تستطع منع نفسها من التعبير كذلك عن صعوبة مرور هذه المناسبات بعد غياب فلذة كبدها، فربما يكون عيد الأم دون أم صعب، إلا أنه في ظل الحرمان من الابن أصعب، حسب تعبيرها.
الحاج محمد، والد مصطفى، لا تنجح محاولاته التماسك خلال الحديث عن ابنه، ويؤكد أن حياتهم تبدلت بعد استشهاده، وأن أسرته الصغيرة لم تعد كسابق عهدها، ويستنكر حديث البعض عن تعويضات مادية قدمت لهم، مشددا على أن “كنوز الدنيا” لا يعوض ظفر أصبع لمصطفى.
يحكي عن علاقة مصطفى بشقيقته الأصغر منه وكيف تأثرت حياتها من بعده، ويحكي بعد أكثر من عام ونصف، عن دموعها التي لا تنقطع كل ليلة حين يأتي طيفه لها، وعن والدته التي لا تمل من التعبير عن تمني الموت للقائه، وعن تماسكه المصطنع داخل المنزل وانهياره المتكرر خارجه.