محمود عبد الله.. فدا الوالد ونال الشهادة
“قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا”.. كانت من كلامه الأخير الذي قاله لخاله قبل عودته إلى ميدان رابعة في تلك المرة التي لم يعد بعدها إلا وهو محمولا على الأعناق بعد أن قضى شهيدا في مجزرة عربة ترحيلات أبو زعبل.
محمود عبد الله محمد علي (27 عاما) ولد في العاشر من يناير/كانون أول 1987 بمركز أبشواي التابع لمحافظة الفيوم، وتخرج من كلية الحقوق بجامعة بني سويف، وكان يعمل محام حر، إضافة إلى عمله في تجارة خاصة.
شهد له كل أقرباءه وأصحابه وأهل قريته بالشهامة وطيب المعشر، وكانت خاتمته شاهدة على ذلك، فقد فدا والده بنفسه حين رأى قوات الأمن تقبض عليه خلال فض اعتصام رابعة، فتقدم وسلم بطاقته ونفسه ليأخذوه بدلا عن والده، وهو ما تم حسب شهادة والدته.
يحكي جاره عز الدين محمد، عن أحد أمثلة تلك الشهامة، حين كان مسافرا للعمل بالسعودية، وحين احتاجت زوجته التي كانت تتعهد محلا لهم لإجراء عملية جراحية، أصر على ترك محله لأخيه، والتفرغ لمحله، بدل إغلاقه دون مقابل.
دماثة خلقه ومروءته كانت حاضرة في مواقف كثيرة، عاينها أهل بلدته، وظل مرابطا في ميدان رابـعـة العدوية، لفترات طويلة، فحسب ما نقله عنه أقرانه، لم يرد أن يرى بلده مجددا “تحت حكم البيادة”، وفي المجازر التي لحقت بالمعتصمين، كان محمود في أوائل الصفوف كما الحال في أحداث النصب التذكاري.
كان مقربا من جميع أفراد أسرته، يدير شئون العائلة في ظل غياب الوالد الذي اعتاد أن يغيب طويلا لالتزاماته في عمله الدعوي، فكان في خدمة والدته التي تقول عنه ” كان بيحب يرضينا أوي”.
كان محبوبا، هينا لينا حتى مع من اختلف معه، ومنهم زوج أخته الذي تأثر بشدة لفراقه، فرغم خلافهم في الآراء، إلا أن طيب معشر محمود كان آسرا لمن حوله، وسماحته مع من يختلف معه كان بريدا لقلوب الجميع، وكان بسيطا يستحضر دائما في كلامه “عايزين نقرب من ربنا”.
يحكي زوج أخته أنه احتد عليه في إحدى مرات النقاش الحاصلة بينهما بسبب خلاف في الرأي، فما كان من محمود إلا أن بادر بمصالحته وتهدئته، والعمل على تجاوز ذلك الخلاف الحاصل بينهما.
وإلى جوار مآثره الأخلاقية الواضحة، ومعاملاته الحسنة، كان محمود معروفا بخدماته التي يقدمها لمجتمعه البسيط في بلدته، فهو المشارك في تنظيف الشارع والجامع، والمعروف بتعهده دورات مياه بيوت الله، كما أنه الحافظ لكتاب الله المحفظ إياه للأطفال وصغار السن.
يحكي خاله حسين الشاويش، في تأثر كيف أن أولاده كانوا يحبونه كثيرا، فقد كان يجمع الأطفال في المسجد لتحفيظهم القرآن، ولذلك أحبه الأطفال وارتبطوا به.
ورغم مناشدات عدد من عائلته له بعدم الذهاب إلى رابعة، بعدما شاهدوه من اعتداءات متكررة ضد المعتصمين، لم يستجب محمود وصمم على الذهاب، موكلا أمره لله، وعاين الموت أكثر من مرة خلال مشاركته في الاعتصام.
يحكي صديقه بكري خليل عن ملابسات اعتقاله، ويقول، “حين رأى الأمن قبض على والده ذهب إلى الضباط وقال لهم خذوني مكان والدي، وبالفعل سلم نفسه وتركوا والده الذي عام إلى البيت، وتم احتجازه في استاد القاهرة قبل أن يرحل في عربة الترحيلات التي شهدت الواقعة”.
أما والدته، أم هاشم، فتحكي عن آخر اتصال بينهما حين هاتفها عشاء يوم فض رابعة، فسألته إن كان قد أصيب فأجاب بالنفي لكنه أخبرها أنه في يد قوات الأمن بعد أن قدم لهم نفسه ليتركوا والده.
تقول أمه المكلومة، إنها كانت برفقته في أيام سابقة خلال الاعتصام، وعادوا سويا إلى بلدهم، وحين عزم على الرجوع للاعتصام، حاولت إثناءه خوفا عليه لكنه راضاها ولاطفها إلى أن وافقت وعاد للاعتصام.
تستحضر في رضا ما كان عليه حال محمود في سالف أيامه، فهو حتى اندلاع ثورة 25 يناير، لم يكن مهتما كثيرا بأحوال البلد، إلا أنه تغير بعدها، حين وجد أن هناك أمل في المشاركة بإصلاح بلده، وصار له حضور في العمل المجتمعي والسياسي، وتغير حاله للأحسن على مختلف المستويات.
فاضت روح محمود إلى بارئها، ضمن أرواح 38 آخرين ممن كانوا في عربة الترحيلات، تشكوا ساعات مؤلمة عاناها أصحابها، بسبب ما تعرضوا له فيما عرف حينها بـ “مجزرة عربة الترحيلات”، وزاد من ألم أهله وأسرته نجاة قاتليه من حساب الدنيا وعقابها.
يقول شقيقه حسين، إنه لم يكن ليتخيل أن يتركهم محمود بهذه البساطة وفي لحظة، خاصة وأنه كان في يد الحكومة التي من المفترض أن يأمن أي أحد على حياته وهو بين يديها، وصدمه أنه لم يتعرف على شقيقه من هول منظره إلا من خلال خاتم في يده.
فيما تقول شقيقته ساره، إن آخر ما قاله لها “ادعيلنا نحن في كرب”، لافتة إلى أنه كان هادئ الطبع لا يحتد على أحد، مؤكدة في ذات الوقت أنها وأسرتها سيستمرون في المضي على طريقه، للمطالبة بحقه.
كتب صديقه المقرب الدكتور علي محمد يصفه، بأنه “من أفضل الشباب وخيرتهم.. كان خلوقا مهذبا حييا هادئا، صاحب ابتسامة مشرقة.. والله يا أطهر الشباب لقد أوجع قلوبنا أنهم قتلوك غدرا”.
كانت جنازة محمود مهيبة، وظل في ذاكرة ووجدان أهله وأحبابه، يتذكرونه بالدعاء وعبارات الوفاء، ويؤكدون استمرارهم على طريق الحرية الذي ضحى محمود بحياته لأجله، مؤملين في يوم قريب تشهد فيه مصر انفراجة وعودة الحقوق لأصحابها.