محمود جابر.. خرج يبحث عن حق أخيه فلحقه
“نازل أجيب حق أخويا”.. شعار سيطر على ذهن بطل قصتنا، وكان له المحفز خلال مشاركته في الفعاليات التالية لفقده شقيقه مصطفى جابر، الذي قتل بأحداث مجزرة سيدي جابر، في 5 يوليو/تموز 2013، حتى لحق به بعدها بنحو شهر وأيام، وهو على ذات الطريق.
محمود جابر إسماعيل (18 عاما) من أهالي منطقة سيدي بشر بمدينة الإسكندرية، وكان طالبا بالصف الثاني الثانوي، وهو الشقيق الأصغر للشهيد مصطفي جابر.
40 يوم فقط كانت المدة الفاصلة بين وفاة مصطفى ومحمود، وبوفاة الشقيق الأكبر، تغيرت حياة محمود 180 درجة، حيث تغيرت اهتماماته وطموحاته في الحياة، وانعكس الأمر بشكل واضح على على حضوره ودوره داخل البيت.
ظهر ذلك جليا في تعاليه عن اهتماماته الشخصية، وتفانيه في تلبية طلبات أسرته، وحضوره الدائم في قضاء حوائجهم وتلبية مطالبهم، كما تغيرت كذلك أحلامه وطموحاته الشخصية، ومن ذلك أحلامه التعليمية والحياتية، حيث قرر السفر للخارج لإكمال تعليمه.
تحكي الوالدة المكلومة التي لم تكن دموعها قد جفت بعد لفجيعتها في ابنها مصطفى، كيف أن محمود كان آخر وأصغر أولادها وأكثرهم تعلقا بها، وكان يحبها كثيرا وبجوارها طوال الوقت ويصحبها في أي مكان تذهب إليه كالسوق أو إلى الطبيب.
وتستذكر السيدة منى، حزن ابنها محمود على شقيقه الأكبر، فقد كان بمثابة القدوة له في الحياة، وهو الأمر الذي دفعه للسير على طريقه، واتخاذ قرار النزول والمشاركة في المسيرات والمظاهرات المناهضة للانقلاب العسكري، وهو الأمر الذي أكده صديقه أنس.
يقول أنس، إن محمود تحول بعد وفاة أخيه٬ من شخص ليس له أي اهتمام بالثورة المصرية والعمل العام، إلى إنسان يتمنى أن يلحق بشقيقه شهيدا، لافتا إلى أنه التقى محمود خلال تلك المسيرات، وتوطدت علاقتهما، حيث طلب منه الذهاب إلى رابعة ليقف بنفسه على ما يحدث في اعتصامها.
يضيف أنس، عندما وطأت قدما محمود في ميدان رابعة، وجد نفسه في عالم مختلف عما كان يتلقاه في الإعلام المؤيد للانقلاب، وظل يصول ويجول في الميدان محاولا اكتشاف هذا العالم الجديد، وهو في سعادة غامرة، يسأل كل من يلقاه عن هدف الاعتصام وماذا يفعل هؤلاء هنا.
كان من أقدار الله، أن يصل محمود إلى الميدان، قبل مجزرة المنصة بيوم واحد، ليكون أحد الشباب الذين وقفوا للدفاع عن الميدان ضد هجوم قوات الأمن والجيش، ومن عاونهم من البلطجية، وأصيب حينها بطلقات خرطوش في يده.
تستحضر عمته هناء، كيف أن محمود عاد من ميدان رابعة بعد فضه، والذي كان يشارك في اعتصامه خلال شهر رمضان، منهكا ومصابا بطلقات الخرطوش، وطلب منها أن تغسل له ملابسه، ولا تخبر أهله بأنه كان في رابعة، لأنه كان قد أخبرهم بأنه ذهب للقاهرة للعمل.
عبرت العمة حينها عن خوفها عليه وقالت له، يا محمود، يكفي ما حدث لأخيك، فرد عليها “أنا عايز أجيب حق أخويا”، ونام عندها، وفي اليوم التالي ذهب إلى بيته ليستعد للخروج في مظاهرات يوم جمعة الغضب الموافق 16 أغسطس/آب 2013.
وعن هذا اليوم، تقول والدته، في صبيحة يوم الجمعة كان محمود يضحك مع الجميع، وكتب على صفحته بموقع فيسبوك، أنه يتمنى أن يكون شهيدا مثل شقيقه مصطفى، وقال لها: “عارفه يا ماما إنتي الوحيده اللي هتوحشيني”
وفي آخر اتصال معها، والذي جرى عصر الجمعة، حيث اتصلت عليه للاطمئنان عليه ومعرفة مكانه، سمعت أصوات إطلاق النار٬ فقالت له “ارجع يا محمود”، فقال لها “لا تخافي أنا بعيد”، بعد ذلك طلب منها إنهاء الاتصال لأن قوات الجيش قادمة نحوهم.
لم تنهي الوالدة المكالمة، وظلت تنادي عليه لكنه لم يرد عليها، حينها أدركت أنه استهدف، وعندما تأخر في الرجوع، قرر والده النزول للبحث عنه، وقال: “أنا نازل أشوف محمود ممكن يكون محتاجني، فردت عليه والدته “محمود مات”.
يعود والده بالحكاية ساردا تفاصيل يوم الوفاة، ويقول إن محمود حين نزل من بيته يوم الجمعة، قال إنه ذاهب لعمه كي يودعه لأنه مسافر، وعندما تأخر نهاية اليوم اتصلوا به لكنه لم يرد، فنزل صبيحة السبت للبحث عنه، فذهب لمستشفي الميري ولم يجده، ثم ذهب للمشرحة فلم يجده أيضا.
عاد الوالد مرة أخرى إلى مستشفي الميري للسؤال عنه، فقال له موظف إنه يوجد شاب مجهول الهوية في ثلاجة الموتى، وحين ذهب للتعرف عليه وجده ابنه محمود، وبعد أن تجاوز الصدمة، سأل عن ملابسات الوفاة، ليجد أنهم كتبوا أنه مواطن مجهول وهرب من المستشفى.
استغرب الوالد هذا السبب غير المنطقي، وأبدى استنكاره ورفضه لذلك، فأخبره الموظف أن الممرضة المناوبة هي من كتبت هذا السبب وحين سألوها قالت إنها لم تراه أصلا، فسألوها على أي أساس كتبت هذا التقرير، فقامت بمسح ما كتبت، وأخرجت تقريرا آخر كتب فيه سبب الوفاة “طلق ناري بالمتعدد في البطن”، معلقة بأن هذه أول مره يستعملون فيها الطلقات المتعددة.
بدأ الوالد في إجراءات الدفن، وحين ذهب بجثمان ولده إلى طبيب الطب الشرعي ووكيل النيابة، بعد أن عمل محضرا في قسم الشرطة بالتقرير المكتوب في المستشفى، سأله وكيل النيابة، هل رأيت من استهدف ابنك، رد الوالد، إذا كنت أعلم قاتل ابني فلم جئت إليك.
حاول الوالد أن يستجر عاطفة وكيل النيابة حتى يقوم بدوره على الوجه المطلوب، وسأله، لو حصل لابنك ما حدث لابني ماذا كنت ستفعل؟ فسكت ثم قال له، احضر لي أي شاهد من أصدقاء ابنك يحكي ما حدث، فقال له الوالد، ابني كان وحيدا ولم يكن معه أحد.
تمكنت بعدها أسرة محمود من دفنه بجوار أخيه مصطفى الذي تمنى اللحاق به، وسط حزن عميق خيم على المشيعين الذين عبروا عن غضبهم، وقدموا تعازيهم للأسرة المكلومة داعين لها بالصبر والثبات.