محمد مشعل.. الشاب النموذج
كان الجميع يأمل له في مستقبل مشرق، فهو في نظرهم ذاك المتفوق صاحب الخلق الرفيع والذي قدم نموذجا للشاب المتميز في مناحي حياته المختلفة، وبات من حوله ينتظرون إنهاءه السنة الأخيرة بكلية الهندسة ليصبح معيدا فيها، إلا أن القدر كان أسبق لتنتهي فصول قصة بطلنا في فض اعتصام رابعة العدوية.
محمد مشعل عطية السيد (21 عاما) من مواليد التاسع من سبتمبر/أيلول 1992 بقرية بحر الهوى في مدينة قرين بمحافظة الشرقية، كان حين استشهاده طالبا في الفرقة الرابعة بكلية الهندسة في جامعة بنها، وكان مجتهدا متفوقا في دراسته، ويأمل ومن حوله أن يصبح معيدا في كليته.
كان الأخ الأكبر لسبعة من الأشقاء والشقيقات، هم سارة وآية ومحمود وخالد وأحمد وجنى، وكان لهم خير أخ كبير، ونموذج وقدوة للصلاح والشاب المستقيم على الخير والخلق القويم.
حفظ محمد كتاب الله، وحرص على أن يكون مثالا حقيقيا للعمل به، وأن يظهر أثره وثمرته في حياته وخلقه ومعاملته للآخرين، وأن يكون ميزانا يزن له جميع الأمور في الحياة، كما كان حريصا على وقته، متقدما على أقرانه، مرجعا لهم في الكثير من الأمور.
هو الابن الأكبر لوالديه، البار بهما والمحسن لجميع أفراد الأسرة، وكان حسب شهادة والده، صاحب بصمة فيمن حوله، خاصة من جيرانه وأصدقائه وأهالي قريته، فيما تؤكد الأم المكلومة أنها بفقد محمد، فقدت أول فرحة لها في الحياة، وذاك الابن الأكبر الذي كان بمثابة الأخ والصديق، الذي كان نعم العون لوالديه في مراعاة باقي إخوته.
خلقه الرفيع، حسب والدته، كان حاضرا في البيت كما في الشارع ومع الآخرين، وبره بوالديه كان مثالا يحتذى من باقي إخوته، وحفظه لكتاب الله كان عنوانا يدل على سمته وصلاح حاله.
فقده كان شديدا على أشقائه وشقيقاته، حيث كان حسب وصف اخته، رحيما ودودا، وأخا أكبر وصديق، ومحل ثقة يرجع له في الملمات من الأمور.
تستذكر الأخت كيف كان رغم أنه الأكبر، يستشيرها ويتناقش معها في كل أمر وفي مختلف المساحات، ومن ذلك المساحة الفكرية، إلى غيرها من المساحات حتى في مظهره وملبسه وكان يقدر رأيها ويأخذ به، كما كانت هي الأخرى ترجع إليه في شؤونها المختلفة، وما يخص مستقبلها ودراستها وتساؤلاتها الفكرية.
كان محمد من تلك الفئة التي يقال عنها “سابق سنه”، فحسب جاره الذي كان أحد معلميه، حيث كان محمد في عمر أولاده، فإنه رغم هذا الفارق العمري كان بمثابة الصديق، لعلو همته وسمو اهتماماته، ولما كان يتمتع به من قوة في الشخصية وتميزا وتفردا فيها، وجرأة في الحق وشجاعة وإقدام لا يتوقع ممن هم في مثل عمره.
وكما كانت أسرته وجيرانه ومعلموه يلمسون سمو خلقه وعلو همته، فكذلك أصدقاؤه وزملاؤه، فإذا ذكر محمد، فأنت في حضرة الصديق الجدع، صاحب الرجولة، المثال والنموذج في مساعدة الأهل والأسرة والصديق والمحتاج.
كان محمد متحملا للمسؤولية منذ صغره، حيث كان يعمل في فترات الإجازة ليوفر من المال ما يساعد به في مصاريف عائلته، فضلا عن توفير احتياجاته الخاصة حتى يخفف عن والده حمل تلك المصاريف، وكل ذلك لم يؤثر على سعيه الجاد للتفوق في دراسته وتحقيقه نتائج متقدمة، حيث كان الثاني على دفعته الدراسية.
وفي هذا السياق، لم يبخل محمد على زملائه في كليته في مساعدتهم ودعمهم بكل ما يستطيع، وكانوا يقدرون له ذلك ويحفظون له جميله.
حفظه لكتاب الله، فتح له الطريق لإمامة الناس، خاصة في صلاة التراويح برمضان، وبالرغم من مشاركته في اعتصام رابعة العدوية إلا أنه حرص على ألا يمنعه ذلك من أداء هذا الدور الذي اعتاده منه أهالي قريته، فقد كان يقسم وقته ما بين التواجد في الاعتصام والعودة لصلاة التراويح.
كان حريصا على وقته ووقت غيره، مهموما بصلاح نفسه ومجتمعه، ومن ذلك ما يذكره بعض أصدقائه، عن حرصه في اعتصام رابعة على استثمار الوقت، وفي سبيل ذلك، أنه كان يأخذ رقم هاتف كل من يعرفه في الاعتصام ويرسل له برنامج المصحف الإلكتروني، كي يستفيد من وقته خلال الاعتصام ولا يهدره.
هذه الشخصية الفريدة، كتب لها أن تكون آخر فصول قصتها في الحياة، فض اعتصام رابعة العدوية الذي كان ضمن كوكبة ضحاياه، وفي عداد شهداء أكبر مذبحة في العصر الحديث.
في آخر اتصال دار بينه وبين والده ليلة فض الاعتصام، أخبره أنه ينوي العودة إلى المنزل صباح اليوم التالي، إلا أنه ومع تباشير الصباح الأولى، ظهرت بوادر عملية الفض الدموية، فكان من الضروري تغيير الترتيبات، وبدل أن يعود محمد للمنزل، قرر الوالدين بعد المشاهد المنقولة عبر الشاشات، الذهاب إلى القاهرة لدعم من كان في الميدان.
نجح الوالدان في الدخول للميدان، إلا أن شدة الضرب والاستهداف من قبل قوات الجيش والشرطة لمكان دخولهما أدى إلى تفرقهما، كما لم ينجح أي منهما في التوصل لمحمد، ليقضي كل واحد منهما يوم الفض بعيدا عن الآخرين.
استطاعت الزوجة التواصل مع زوجها في اليوم التالي، إلا أنهما لم يفلحا في التوصل لابنهما محمد، حتى أتاهم اتصال يخبرهم أن محمد قد استشهد وجثمانه في مسجد الإيمان وعليهم الحضور لاستلماها.
كان الوالد قد أجهد بشدة خلال يوم الفض، واشتد عليه الأمر أكثر حين علم بفقده ابنه البكر، فخارت قواه ولم يعد يقدر على المسير، فذهب أشقاؤه وعدد من أقاربه لاستلام الجثة، وما كان من قوات الانقلاب التي كانت تشرف على تسليم الجثث إلا أن اشترطت كتابة سبب الوفاة في تقريرها “الانتحار”، وهو الأمر الذي رفضه ذوو محمد، وظلوا ثابتين على موقفهم حتى كتب أن سبب الوفاة “طلق ناري في الصدر”.
لحظاته الأخيرة، كما يحكيها أحمد علي أحد أصدقائه، حيث كان برفقته قبل استشهاده، تعكس استشعاره بدنو الأجل، فقد حرص على أن يخبره بوصيته، ليختفي من أمام ناظره بعدها بدقائق، ويأتي لاحقا نبأ استشهاده.
وأصيب محمد برصاصة قناص في الصدر خرجت من ظهره، وظل ينزف لعدم وجود من ينقله للمستشفى الميداني أو أي اسعافات أولية، حتى فاضت روحه لبارئها.
وصل جثمان محمد لمسقط رأسه ودفن بعد صلاة العشاء، وكانت جنازته مهيبة شارك بها الآلاف من أبناء قريته، حتى لا تكاد ترى نهاية لأعداد المشاركين الذين كانوا متأثرين لهذا الفقد، وكانت تلك المشاركة الفريدة لتلك الأعداد الغفيرة دليلا واضحا على القدر الرفيع الذي كان يحظى به محمد لدى أهالي قريته وأصدقائه.
ظلت ذكرى محمد حاضرة لدى أهالي القرية، حيث كان شبابها ينظمون وقفات ومسيرات ضد الانقلاب العسكري، وكان منزل أحد النقاط الرئيسية للتجمع، وهناك يتعالى الهتاف “ستبقى ذكراك خالدة في قلوبنا يا مشعل أبدا لن ننساك”