محمد عثمان.. روح تعلقت ففاضت
“روحي هناك وإن تركت المكان”.. هكذا كان يتحدث بطل قصتنا عن مشاعره تجاه الاعتصام في ميدان رابعة العدوية، حين تضطره الظروف لتركه فترات محدودة، يعود بعدها ليستعيد روحه مرة أخرى، قبل أن تصعد إلى بارئها، في مذبحة القرن، التي راح ضحيتها المئات وعرفت بـ “مذبحة رابعة”.
محمد عثمان شخروبة (40 عاما)، من مواليد قرية شطا، التابعة لمحافظة دمياط بدلتا النيل، في 12 أبريل/نيسان من عام 1973، وهو متزوج وجاءه الأجل وعنده ولدين، علي (13 سنة) وأشرف (10 سنوات)، وبنت، اسمها منة (4 سنوات)، وكان يعمل نجار موبيليا.
لم يتسن لمحمد إتمام تعليمه، فقضى في الخدمة العسكرية الفترة الأطول، حيث التحق بها عام 1993، وأنهى خدمته في 1997، ومر فيها ببعض المواقف منها، أن أول مهامه كانت المشاركة في القبض على أحد المظلومين، وكان مهموما لذلك، لكن الله ألقى عليه سنة من النوم، وغفل عنه الضباط فلم يلحظوا غيابه.
تحكي زوجته، عن مناقبه وخلقه، وتتذكر كيف أنه حين تقدم لخطبتها، وسألت عنه الأستاذ جمال حسن أحد رموز قريتها وممن عرفوا بالصلاح، فقال لها “محمد أحسن شباب شطا”، ثم تقول الزوجة، وقد كان ولا أزكيه على الله.
عرف محمد بيقينه الكبير في الله وحسن ظنه به، حتى بات ملهما لأقرانه ومن هم في محيطه، يستمدون منه الثبات والعزيمة، كما كان صاحب نفس صافية وصدر سليم، لا يحمل الحقد ولا الضغينة لأحد، متسامحا مع نفسه والآخرين، ذو إحساس مرهف، يتأثر لألم غيره حتى تحسب أنه ألمه.
عرف كذلك بمراعاته الكبيرة لمشاعر غيره، ووصل في ذلك حدا مثيرا للإعجاب، فهو في حديثه مع الجميع يحسب لكل كلمة حسابا، ولا ينادي أحدا إلا ويسبق اسمه بلقب يحمل التقدير، أو ما سبق في علمه من أسماء أو كنى يحبها أصحابها، فهناك الأستاذ، والمهندس والدكتور، وأبو فلان، وأم فلان، حتى وإن كان المنادى أصغر في السن منه.
ولذلك، كان له عظيم الأثر في كل من عرفه وتعامل معه وعاشره، وما يدعو للإعجاب في هذا السياق، أن يحسب كل أحد من معارفه أن علاقته بمحمد كانت فريدة وخاصة، فبحسن خلقه وجميل عشرته وابتسامته الدائمة، وسؤاله الدائم عن الغير، زرع هذا الشعور لدى أغلب من تعاملوا معه.
هذا في شأنه العام، وعلاقته الواسعة بالآخرين، أما عن حياته الخاصة، فقد كان بارا بأهله وكذلك أهل زوجته، ولا يفرق في ذلك بينهما، ولا أدل على ذلك مما حكته زوجته عن الأمر بأنها كانت تتحرج منه لكثرة بره بأهلها، سواء من هم داخل دمياط، أو حتى خارجها.
ولشدة بره وحسن معاملته بجميع أفراد عائلته وعائلة زوجته، كان محل سر الكثيرن منهم، كما أنه كان بمثابة الأب لبنات أخواته، لدرجة أن بعض أزواجهن كانوا يغاروا منه لشدة ارتباطهم به، لبره الدائم بهم، ومساندته المؤثرة لهن في مشاكلهن وما يواجهن في الحياة.
تقول زوجته “ابتليت أمي بالمرض 8 سنوات، كان خلالها نعم العون لي فى برها ويصحبها للمستشفى، ولو أصابني التعب من ابتلاء أمى، ينزعج مني ويقول (من يقصر فهو الخسران، دا باب مفتوح للجنة أوعي تقفليه)”
وإلى جانب تميزه الاجتماعي والأخلاقي، فقد كان متميزا في تدينه وعلاقته بربه، فصلاة الفجر حاضرة لا يكاد يخطئها وإن أخطأ منبه الساعة، فحسب أهله وذويه، لم يتخلف محمد عن صلاة الفجر في برد أو حر، كما كان لا يفرط في السنن، وصلاة الضحى والوتر.
ورغم عدم حصوله على نصيب من التعليم في المدارس، إلا أنه كان شديد الحرص على محاولة قراءة القرآن وفهمه، وكان يقرأ ما يتيسر على زوجته وبعض إخوانه، ويجاهد في ذلك أيما جهاد.
تقول زوجته، “كنا نجلس يوميا بعد صلاة الفجر لقراءة صفحة من كتاب الله، وحين يتعتع فيها، ويشق عليه الأمر، أذكره بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن له أجران، فيتشجع أكثر، وبعدها نردد الأذكار”.
تشكر زوجته له حرصه على أن يعودها على صلة الرحم، والعفة والتسامح، وأن يغرس فيها عزة النفس والرضا بكل شيء، ويقدم من نفسه النموذج الصالح لما يدعو إليه غيره، فإذا ما تعرض لضائقة في المعيشة، حمد الله واستحى أن يطلب الزيادة.
كان محمد بارا بوالديه محبا لأمه حبا جما، متقنا لحرفته، حيث كان نجارا حاذقا، لا يرضى أن ينزل مستوى عمله عما يثبت براعته، وكان خدوما لغيره، لا يفرق في ذلك بين صديق أو مخالف، وكان يترك الاعتكاف في العشر الأواخر لقضاء حوائج الناس.
شارك محمد في ثورة 25 يناير منذ بدئها، وظل وفيا لمبادئها وأهدافها، يشارك في أغلب الفعاليات اللاحقة التي تمت في سياق المحافظة على فاعليتها، سواء في محافظته دمياط، أو في القاهرة مركز الثورة، وانتهاء بالمشاركة في اعتصام رابعة العدوية الرافض للانقلاب العسكري.
قبل سفره الأخير من قريته لميدان رابعة، كان صائما وخرج للمشاركة في تشييع جنازة، وعند عودته قال لزوجته “أنا اليوم صائما وشهدت جنازة.. بقي زيارة مريض حتى أكون مثل سيدنا أبو بكر”.
قضى محمد في مذبحة رابعة بعد صلاة العصر، حيث أصيب بطلقتين، واحدة في صدره والثانية بين عينيه، ومع ذلك خرجت شهادة الوفاة، بأنه قتل بطلق ناري دون توصيف، ولم يشر تصريح الدفن إلى أي إصابات.
كان فى آخر لحظاته يثبت مرافقيه، ويقول لهم “لا تخافوا.. اثبتوا.. والله ربنا هيفرجها”، وقبل استشهاده، نطق بالشهادة بكل أريحية وفاضت روحه.
شُيع محمد ودُفن في مسقط رأسه يوم الخميس، التالي ليوم المذبحة، وشاركت حشود غفيرة في جنازته المشهودة، وردد المشاركون هتافات غاضبة تطالب بحقه وحق باقي ضحايا مذبحة رابعة العدوية.