محمد الشنواني.. ابن الجموح الإسكندراني
متلمسا خطا الصحابي عمرو بن الجموح، في حرصه على الشهادة، ودأبه في طلبها.. ومرارا قيل له “ما عليك من حرج فأنت صاحب عذر”، فكان لسان حاله، وتعبيره الدائم عن رغبته في الشهادة ما قاله ابن الجموح “والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة” فلعله بلغ ما تمناه.
محمد عبد القوي الشنواني (24 عاما)، كان على موعد مع رصاصات غادرة، لم تراعي حالته الخاصة، وعجزه البين عن الحركة الطبيعية، وذلك خلال مشاركته في وقفة أمام منزل شهيدة سبقته بأيام.
في الثلاثين من يناير/كانون أول 2014، كان الغضب لا يزال يسيطر على شباب الإسكندرية جراء سقوط عدد من الشهداء في ذكرى ثورة يناير الثالثة، ونظم قرابة ثلاثين منهم وقفة أمام منزل الشهيدة سمية محمد عبد الله، لمواساة أسرتها والتأكيد على عدم التنازل عن الأخذ بحق دمها.
كان محمد، حسب شهادة والده، علما في مدينة الإسكندرية، يعرفه الكثيرون بطبعه الحسن ونشاطه المميز، ورغم حرص والده على التوسعة عليه، وضمان توفر المال معه لاستيفاء حاجاته، إلا أنه كان دائم التصدق به، كما كان حريصا على دراسته.
كانت الإعاقة التي لدى محمد، أحد دواعي الأسى والحزن لديه، ليس لما تشكل عليه من ضغط في الحياة، وصعوبة في المعيشة، وإنما لخوفه من أن تحول بينه وبين أمنيته بالشهادة، التي لم يكن يتخيل نيلها إلا من خلال مواجهة اليهود المغتصبين للقدس في ساحة المعركة.
يحكي والده كيف أنه كان يسعى للشهادة في سبيل الله منذ بلغ الرابعة عشرة من عمره، وأنه كان على يقين من نيلها، وبينما تأثر الكثيرون باستشهاد الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة حماس، لم يُخف محمد فرحه لهذه الشهادة، باعتبارها نموذجا يقوي لديه الأمل في إمكانية سيره على ذات الدرب ونيله إياها.
كانت “الشهادة” كلمة السر الدافعة لضبط تصرفاته والاجتهاد في تحسين أحواله، يقول والده، كان محمد حريصا على صلاة الفجر في جماعة، وربما يكون متعبا في بعض الأحيان، إلا أن مجرد تذكيره بهدف الشهادة، يدفعه للاستعلاء على إرهاقه وتعبه والمبادرة للاستيقاظ.
كذلك الحال إذا غضب واحتد، حيث يبادر والده لسؤاله، هل يا ترى هذا تصرف يقبل من “شهيد” فتسكن نفسه ويهدأ في حينه.
كان محمد بارا بوالديه، صادقا في قوله، ملتزما بمواعيده، وخلال أدائه العمرة، كان حريصا على الصف الأول في جميع الصلوات، ويتجنب الذهاب إلى مكان نزوله في الفندق للراحة حتى لا يضيع أي فرصة للاستزادة من العبادة والأجر.
كتب صديقه، محمد إسلام، كيف أنه في يوم مذبحة المنصة، ومع شدة الضرب من قبل قوات الجيش والأمن، كان يشارك المعتصمين في رص الحجارة لعمل حواجز ومتاريس تحمي الاعتصام، وظل يصرخ، “أنا مش بموت ليه يارب.. يارب عاوز أبقى شهيد”.
كان محمد يحب العمل الخيري ويساهم فيه رغم وضعه الخاص، يشهد له أصحابه بكثرة خروجه مع قوافل جمعية الرسالة، ولا تمنعه صعوبة الحركة عن المساهمة في بناء الأسقف وحفر وصلات المية.
وفي رمضان، كان محمد يساهم في إعداد شنط هذا الشهر الفضيل، ويسعى في حمل المواد الغذائية وجمعها، ويساعد في خدمة المصلين بمسجد القائد إبراهيم، ويؤجل في سبيل ذلك الإفطار بعد صلاة التراويح.
كما كان يعمل محمد رغم إعاقته، على خدمة المعتكفين خلال العشر الأواخر من رمضان، ولا يقبل محاولة الإثناء من أحد، ويرفض عبارات الشفقة المعتادة من الحاضرين.
كانت حالة أسرة محمد ميسورة، وفي مقدرة والده توفير وسائل الراحة له، إلا أنه مع ذلك لم يقبل أن تكون له سيارة، بل كان يفضل ركون المواصلات العامة، لما توفره له من مساحة التواصل مع الآخرين، وإيصال ما يريده إليهم من مفاهيم دعوية وثورية.
لم يترك محمد فعالية من فعاليات الثورة ورفض الانقلاب، إلا وسعى للمشاركة فيها، وشهد اعتصام رابعة العدوية، وحضر يوم فضه، وخلال الاعتصام، كان حريصا على التنقل بين خيماته للتعرف على الآخرين، وسؤالهم عن حاجاتهم.
تفاءل والد محمد بما وقف عليه من مبشرات خلال غسل نجله، فحسب مغسله ومن شهدوا الغسل، كانت رائحة المسك تفوح من جسده، وظلت ملازمة لملابسه الأخيرة التي استشهد وهو يرتديها، مدة عامين، وحين دفن والدته (جدة محمد) في ذات المقبرة بعده بعشرة شهور، وجدوا جسده لم يتحلل، وذات الرائحة باقية.
كانت جنازة محمد حاشدة، شهدها الآلاف من أهالي الإسكندرية، وعبر خلالها الكثير من المشاركين عن حزنهم وألمهم الشديد لمقتله، معتبرين أنه قد أقام الحجة عليهم بنشاطه المكثف وعزيمته رغم حالته الخاصة، وأخيرا باستشهاده، ولم تسلم هي الأخرى من استهداف قوات الأمن.
كما نظم العشرات من شباب الإسكندرية وقفات لاحقة وسلاسل بشرية إحياء لذكرى محمد، رفعوا خلالها لافتات تحمل صوره.