عبد العظيم شلتوت .. التاجر مع الله
لم تفارق البسمة وجهه حيا وميتا، وبكاه أهل قريته بعد رحيله ضمن شهداء فض اعتصام رابعة العدوية، حتى من وقف في صف العسكر ضد المعتصمين فيه، وعلى قدر بسمته المفتقدة، كان حزنهم العميق لهذا الفقد المؤثر.
عبد العظيم حسين شلتوت (47 عاما) موجه زراعي بالمرحلة الثانوية، وتاجر مواد البناء، أحد ضحايا فض اعتصام رابعة العدوية على يد قوات الجيش والشرطة.
كان لديه 5 أبناء من صلبه، بينما بكاه معهم العشرات من أبناء قريته الدلجمون التابعة لمركز كفر الزيات بمحافظة الغربية، كما لو أنهم فقدوا الوالد على الحقيقة.
عاش شلتوت بين الناس حياة مفعمة بالأحداث والتفاصيل الخاصة والعامة، وعرف بسعيه الدائم إلى معالي الأمور، ففي عمله كموجه زراعي بمدرسة قريته الثانوية، كان لا يقل اهتمامه الملحوظ بزراعة المدرسة بمجهود خاص، عن زراعة الخلق القويم بين طلابها وري بذور المعرفة فيهم.
لم تكن تمض حصته بين طلبته دونما نصيحة أو توجيه ديني أو حياتي بأسلوب أبوي رقيق يلقى أثره الواضح فيهم، ما أسرهم لشخصيته وزاد تعلقهم بحصصه.
وإلى جانب عمله الوظيفي، كان شلتوت أجد تجار مواد البناء المعروفين في القرية، كما عرف بكرمه وعطفه على أهل قريته، فلم يغتن فقراءها بقدر ما أغنتهم صدقاته، فأهل القرية كان أغلبهم من الطبقة دون المتوسطة، ومن الصعب عليهم التكافل بالقدر المؤثر، لذا كان أثر كرمه واضحا.
كان منتسبو الجمعيات الخيرية وجامعوا الصدقات، يجدون صعوبة وحرجا في كفاية الأيتام والأسر المستحقة للصدقة، لكن عندما يتصدق عبد العظيم شلتوت، يقولون: “جاء الفرج”، حيث عودهم على التبرع بأطنان من المواد الغذائية، وكميات كبيرة من الأغطية والملابس الجديدة.
ومع اتساع تجارته وسعة رزقه منها، كان شلتوت متسامحا لينا مع قاصدي بضاعته، وعرف في القرية بأنه ملاذ الفقيرات والعائلات البسيطة، فإذا أرادت إحداهن بناء مأوى لها ولأطفالها، يبادر بإعطائهن حاجتهن، ويقسط عليهن التكاليف تقسيطا مريحا، وربما تجاوز عن جانب منها.
كان شلتوت رفيقا بأبنائه، ومنفتحا في تربيتهم دون تساهل مع ما يحمله من قيم إسلامية، فكانت إحدى بناته رسامة، رغم معارضة المحيط القريب له لعدم اعتياد ذلك في حياة القرى والأرياف، كما كان يستغرب معارفه شكل علاقته الحميمية مع أبنائه، فما اعتادوه في قريتهم، شدة الآباء مع أبنائهم.
يحكي ابنه محمد، كيف أنه لا يذكر أي موقف أهانه من والده، وكيف أنه كان بمثابة الصديق والصاحب، وكان يكفيه منه نظرة عتاب تشعره بخطئه، مشيرا في هذا السياق إلى عبارات الغبطة التي كان يسمعها من أقرانه في المدرسة، وقول أحدهم “يا بختك.. أبوك بيهزر معاك”.
يشهد له أقرباؤه كذلك بالحرص على صلة الرحم، والتودد للصغير والكبير، وفي ذلك تقول هبة ابنة أخيه: “كانت كل زيارة له درس في الحياة، أما الدرس الذي لم يعلمه لنا في حياته، هو كيف كان يرى أن تلك الحياة لا تساوي شيئا، ليقبل على الموت غير مبال”.
في ثورة 25 يناير 2011، شارك في أغلب أيام الاعتصام بميدان التحرير، وكان مؤمنا بأهداف الثورة منافحا عنها، كيف لا وهو الذي عانا الأمرين خلال فترة الرئيس المخلوع حسني مبارك، حيث اعتقل أكثر من مرة، وباتت له حقيبته المجهزة جوار باب المنزل تحسبا لأي اعتقال جديد.
كان نزيها يحب أن يظهر فضل الله عليه، ولذا حرص على أن يلبس أبناءه أفضل لباس، ويقتني لهم أفضل أثاث دون سرف ولا مخيلة، حتى حال اعتقاله خلال فترة مبارك، كان العنبر الذي يتواجد فيه يعرف بفيلا شلتوت لحرصه على أن يوسع على من معه فيها.
ومع ذلك، فقد كان متسامحا حتى مع خصومه ومن آذوه، فحين علم بإصابة المخبر الذي كان يبلغ عنه السلطات بمرض السرطان، جمع أصحابه وذهب لزيارته، وأصر على جمع التبرعات لعلاجه.
علاقته بميدان رابعة العدوية كانت علاقة فريدة، حيث حرص على التواجد في الاعتصام منذ أوله وحتى يوم فضه الذي استشهد فيه، ومن مظاهر تلك العلاقة، حرصه على عقد قران نجله محمد على منصة الميدان.
كان يشعر بدنو أجله ويشم رائحة الشهادة كما يخبر ذووه، لذا قم بتصفية تجارته تحسبا لذلك، وليلة الفض، أيقظ رفاقه في الخيمة لصلاة القيام، وأوصى ابنه محمد بأمه وأخته الصغرى حبيبة، ثم تسحر لصيام الست من شوال، وصلى الفجر، وأراح قليلا ليفيق على صورت الرصاص، ودخان الغاز المسيل للدموع.
هرع للدفاع عن الميدان بصدر عار ويد خالية من السلاح، كما الحال مع غيره من رواد الميدان، ليصاب مبكرا برصاص العسكر، ويوضع جثمانه بإحدى قاعات مركز رابعة العدوية، وعانا أهله للوصول إليه بعد حرق القاعة التي كان فيها وتضرر جثمانه.
وفي قريته التي كان شلتوت فقيدها الوحيد في فض الاعتصام، علت هتافات الحزن والغضب خلال جنازته، ولم ترهب المشاركين تحذيرات تناقلها مرجفون بعدم الهتاف والتجمهر، خوفا من بطش قوات الانقلاب حينئذ.