الحسن نور الدين.. ابن أسوان الشهم
“اتوحشتك يا أمي.. تعاليلي الميدان وهحطك في مكانة حلوة، تعالي وشوفي بنفسك الاعتصام واللي بيحصل فيه”.. لم تثنه طول المسافة أن يدعو بطل قصتنا والدته للسفر من أقصى صعيد مصر إلى القاهرة، لتقف بنفسها على ما يحدث في ميدان رابعة، وتتأكد من زيف ما يسوقه الإعلام حينها عن المعتصمين.
الحسن محمود نور الدين (25 سنة) من مدينة إدفو بمحافظة أسوان، نشأ يتيم الأب فقد توفي والده وهو في مقتبل عمره، وله 6 إخوة وأخوات، 3 أشقاء و3 شقيقات، وكان ترتيبه الثالث بينهم.
أنهى تعليمه بالمرحلة الإعدادية واضطر للعمل كي يساهم في دخل البيت، وكان آخر عمل مارسه قبل وفاته، هو فرد أمن بإحدى المدارس الخاصة.
عقد الحسن قرانه قبل وفاته بثلاثة أشهر، وكان قد جهز كل مستلزمات الزواج، حيث كان من المقرر أن يكون زفافه في أكتوبر/تشرين أول 2013 بعد عيد الأضحى مباشرة، إلا أن الأقدار حالت دون ذلك، بانضمامه إلى موكب ضحايا فض اعتصام رابعة العدوية.
لم يكن الحسن ينتمي إلى جماعة دعوية أو حزب سياسي، وإنما أتت مشاركته في اعتصام رابعة نصرة لما يراه حقا، وقد وقف بنفسه على الأوضاع بالميدان وطبيعة الاعتصام وفعالياته، ما دفعه للتمسك أكثر بالبقاء فيه، وحضه والدته وإخوته للحاق به هناك.
كان الحسن نموذجا لالتفاني والتضحية من أجل الآخرين، وكان مضرب المثل في الشهامة بين أقرانه، كما أنه كان صاحب تدين فطري، تجنب كل ما اعتاد شباب جيله أن يقعوا فيه، وفي مقدمة ذلك التدخين وتضيع الأوقات فيما لا يفيد.
شكل استشهاد الحسن صدمة قوية لشقيقه نور، الذي كان متأثرا كغيره من الشباب المصري، بالخطاب الإعلامي المشحون حينها، والحملات الممنهجة ضد حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، أول رئيس مدني منتخب في البلاد، وانضم إلى حملة تمرد، وشارك في فعالياتها.
كما دفعته تلك الحملات للمشاركة في التفويض الذي طلبه قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي، ظنا منه أن الأخير يعمل صادقا لنقل البلاد إلى مكانة أفضل، ولم يكن يتوقع أن تؤول نتيجة هذه المشاركة وهذا التفويض إلى سفك الدماء وقتل الأبرياء ومنهم أخيه الحسن.
تغيرت الصورة تماما لدى نور، بعدما رأى الدماء المسالة في فض اعتصامي رابعة والنهضة وفي محافظات مصر المختلفة، واعتقال فتيات صغيرات، وتعرض لتهديدات بالقتل من قبل أعضاء كانوا معه في حملة تمرد، لتغير موقفه عقب استشهاد أخيه.
يحكي نور، كيف أن شقيقه الحسن كان بدأ الذهاب إلى اعتصام رابعة من أول يوم بعد الانقلاب٬ فكان يتنقل بين اعتصامي رابعة والنهضة وبين عمله، حتى حصل على إجازة ليقرر الاعتصام التام في رابعة.
يستذكر نور كيف أنه كان يصدق ادعاءات البعض، بأن شقيقه لا يستطيع الخروج من الاعتصام، بزعم أن من يدخله لا يسمح له بالخروج منه، إلا أن شقيقه كان ينفي له تلك المزاعم.
كان الحسن يحمل هم إيصال الصورة الحقيقية للاعتصام وما يجري فيه لأسرته، ويتصل بوالدته كل يوم، ليريها ويسمعها حقيقة ما يحدث في رابعة، ويطلب منها الحضور وجلب ما يمكن أن تجلبه معها، لأن الاعتصام يقوم على دعم المشاركين فيه، لا كما يفتري الإعلام عليهم.
تحكي الأم ذلك وهي تتعجب مما كان يبثه الإعلام، بهدف تشويه المعتصمين، واتهامهم بالحصول على الأموال مقابل مشاركتهم في الاعتصام، وتستذكر كذلك طلب ابنها منها أن تحضر له مبلغا من المال كان متبق من راتبه، وتركه معها.
ومع ذلك، كانت لخوفها عليه ترجوه أن يعود إلى البيت، لكنه كان يرفض ويقول لها، أنا هنا نصرة للحق أمام الباطل، فتعاود الأم طلبها منه وتقول سيقتلونك يا ولدي، فيقول لها إذا أموت شهيدا.
كان حريصا على طمأنتها، عبر التأكيد لها بأن المعتصمين لا يقومون بشيء سوى العبادة وعمل الخير، وصد أي عدوان عليهم، ويحثها على أن تأتي إليه وتشارك في الاعتكاف معه خلال أيام شهر رمضان.
يوم الفض الموافق للرابع عشر من أغسطس/آب 2013، اتصل الحسن بوالدته وطلب منها أن تفتح قناة الجزيرة، فقد بدأت عملية فض الميدان، فما كان من الأم الطيبة إلا أن أشارت عليه بالاستنجاد بالشرطة ليساعدوه في الخروج من الميدان، فرد عليها “إذا كانوا هم اللي بيقتلونا والمعتصمين بيقعوا قدامي!”.
وبينما المكالمة مستمرة والأم تحاول جاهدة أن تقنعه بالخروج من الميدان، ليأتيها صوته فجأة وهو يقول “خلاص خلاص”، وينقطع الصوت بعدها وتشعر بسقوط الهاتف منه، ثم تحاول مجددا الاتصال عليه إلا أنه لا رد.
وخلال هذه المحاولات، رد عليها أحد رفاقه في الميدان، وأخبرهم أن حسن أصيب، لكنه لا يعلم مكانه الآن، فقد ذهب ليسعف مصابا آخر وحين عاد لم يجده، ثم اتصل بهم ذات الشخص الذي كان معه هاتف حسن، وأخبرهم بأنه استشهد برصاصة في جبهته.
سارعت العائلة بعد اجتماعها للسفر إلى القاهرة، وكانت وجهتهم مشرحة زينهم، للبحث عن جثمانه، وفجعوا بمشهد الجثث المتناثرة في الشوارع المحيطة بالمشرحة، وصدموا بمناظر تلك الجثث التي منها ما كان محروقا ومنها ما كان مشوها ومنها ما كان مبتور الأعضاء، وبعد بحث طويل لم يعثروا عليه.
جلست الأم المكلومة قرب الجثث المتناثرة، تقرأ القرآن وتدعوا الله أن يعينها للعثور على ابنها، بينما ذهب رجال العائلة للبحث في المستشفيات، وعندما حل الظلام وفشلت جميع محاولات البحث، جاءت ثلاث سيارات إسعاف محملة بالجثث التي كتب عليها مجهول.
وجدوا بين تلك الجثث جثمان الحسن وهو مضروب بطلقة رصاص في جبهته، وتطوعت إحدى المتواجدات بتوصيل الجثمان ووالدته المكلومة إلى المكان الذي قامت العائلة لاحقا بدفنه فيه.