أُبَي المصري.. الميدان وصيته الأخيرة
“أوعوا تسيبوا رابعة” كانت هذه هي آخر كلمات أوصى بها بطل قصتنا شقيقه أنس، وهو في لحظاته الأخيرة غارقا في دمائه بعد إصابته بطلق ناري في بطنه، استهدفه به قناص خلال فض اعتصام رابعة العدوية.
أُبَي محمود محمد فرج الله والشهير “بأبي المصري” (22 عاما) من مواليد حي الشرابية بمحافظة القاهرة، حصل على درجة الليسانس من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وعقب تخرجه عَمل مدرسا للغة العربية بدولة الإمارات.
كان الأخ الأصغر لشقيقين، أنس وأروى، وكان مشاركا في ثورة 25 يناير 2011، مؤمنا بأهدافها وظل مخلصا لها حتى جاءه الأجل شهيدا في فض اعتصام رابعة، في الرابع عشر من أغسطس/آب 2013.
قبل استشهاده بـ 4 أشهر، أدى أبي العمرة واصطحب معه والدته وشقيقته، ليكون هذا النسك من آخر محطات حياته الثرية بالمواقف النبيلة، وتظل زيارة البقاع المقدسة كأجمل ذكرى، وأغلى هدية بر يقدمها لوالدته، التي لن تنسى أي تفصيلة من تفاصيلها، وستظل أجواءها حاضرة في الذاكرة مدى عمرها.
حفظ أُبَي القرآن وكان يحفظه لأبناء حيه ومنطقته في مسجدهم، كما كان له دور تربوي معهم، يبث فيهم القيم الصالحة، من خلال تقديم نماذج مثالية، عبر حكاية قصص الأنباء والصحابة والتابعين في شكل شيق وجذاب، ما جعلهم متعلقين به بشكل كبير، وأكثر حزنا وتأثرا بفراقه بعد مقتله
“له من اسمه نصيب” كما يرى والده الحاج محمود، فقد كان “رجلا لا يقبل الضيم، ولا يرضى بالزلة والمهانة” جريء في الحق والوقوف له، كما أنه كان سهلا رجاعا إذا أدرك وأنه جانب الصواب.
بدأ أبي مرحلة الالتزام والاهتمام بأحوال أمته بعد التحاقه بكلية دار العلوم، حيث تعرف فيها على صحبة صالحة شاركهم أنشطة طلابية مختلفة، عملوا من خلالها على خدمة زملائهم ومساعدتهم للحصول على حقوقهم، وكانوا يتواصون دائما على نصرة الحق، والصبر على الأذى في سبيل ذلك، حسبما يحكي الوالد عن ابنه.
التحق بركب الثورة منذ بواكيرها الأولى، وكان له صولات وجولات في ميدان التحرير وبالتحديد في موقعة الجمل، حيث كان ضمن الزمرة التي صمدت أمام إرهاب فلول الحزب الوطني، وصد البلطجية التابعين له والذين هاجموا الميدان، وكانت تلك المشاركة مناسبة لأن يعزز فيها أبي، حبه وتعلقه بمصر.
لاحقا، سافر أبي إلى الإمارات للعمل، لكن ذلك لم يفصله عن وطنه والاهتمام به، وكان يتابع أخباره وعلى تواصل مستمر مع أهله وذويه في مختلف التفاصيل، وبعد الانقلاب العسكري، ومع قرار رافضيه الاعتصام في ميدان رابعة، قرر أُبي أن يقضي إجازته السنوية مع المعتصمين في الميدان.
وفي هذا السياق، تحكي والدته، أن أبي كان بعد عودته مباشرة من السفر، ترك حقيبته في بيته، وتوجه إلى الميدان، وظل ماكثا فيه لا يخرج منه إلا لأمر طارئ ملح، وحين اتصلت عليه والدته، وقالت له إنها مشتاقة إليه وتريد أن تلتقيه، استأذنها في أن تأتي هي إليه في الميدان، لأن روحه باتت معلقة بالاعتصام ومن الصعب عليه ترك الميدان.
تأسف أخته لأن القدر لم يمكنها من رؤية أخيرة لشقيقها رغم سعيها لذلك، وتحكي عن آخر ليلة له وهي ليلة الفض، حين اتصل بها وطلب منها أن تحضر حاجة له من البيت، وتلتقيه لتوصلها له خلال مروره في مسيرة بمنطقة منزلهم (الشرابية)، لكن لشدة الزحام لم يتيسر اللقاء، وكان ذلك قدر الله.
حين بدأ فض الميدان، كان والده يتابع مجريات أحداثه عبر القنوات التي كانت تبث الاعتصام، وحين رأى الدماء التي تسيل والجثث التي تحمل، وكثرة أعداد المصابين خاصة من الشباب، التفت إلى زوجته وقال لها “احتسبي ولديك من الشهداء”.
وهناك.. في الميدان، كان المشهد الأخير كما يرويه شقيقه أنس، وذلك خلال يوم الفض الذي بدأ بتحذير المنصة للمعتصمين من فض متوقع، وكان أبي وأنس ضمن مجموعة من المعتصمين شاركوا في مسيرة ليلية، وخلال غفوة راحة بعد الشروق، فوجئ أهل تلك الخيمة بأبي يوقظهم على صوت إطلاق النار والحديث عن بداية فض الاعتصام.
توجه الجميع إلى منطقة خلف طيبة مول، وهناك أصيب أسامة بطلقات خرطوش في رأسه فحمله أُبي إلى المستشفى الميداني لتلقي العلاج، ثم حين أراد العودة للمشاركة في حماية الميدان، طلب منه أنس أن يكون معه الهاتف حتى يستطيع التواصل معه.
عندما خرج من المستشفى الميداني اتصل بأُبي ولكنه لم يرد٬ فتوقع أن يراه في خيمة الاعتصام ولكنه لم يجده، ووجد الهاتف، يبدأ رحلة البحث عن شقيقه أبي في كل مكان بالاعتصام، وبات غالبا على ظنه أنه إما أن يكون مصابا أو سقط شهيدا.
لم يجده في خيمة الاعتصام كما لم يجده في المستشفى الميداني الذي ظل فيه حتى وصول قوات الانقلاب وتهديدها لجميع المتواجدين بحرقهم في حال لم يغادروا المكان، فغادر أنس وهو بعد لم يعثر على شقيقه، وكان مهموما بالأمر لا يدري كيف يعود إلى المنزل، وبماذا سيخبر والديه.
فور العودة إلى البيت، تلقى اتصالا من طبيب بمستشفى جراحات اليوم الواحد في مدينة نصر يخبرهم بوجود أُبي مصاب في المستشفى٬ فذهب أنس على الفور إليه لرؤيته في المستشفى الذي تحول إلى مستشفى طوارئ من كثرة الإصابات الواردة من الميدان، وبعد بحث مضني عثر عليه في العناية المركزة بعد إجراء عملية جراحية له.
يحكي أنس عن اللحظات الأخيرة، حيث أنه عندما رأى أُبي سأله هل صليت الظهر، فرد أنس “هخلص معاك وأنزل أصلي” ثم تابع: “هل تركتم رابعة؟ أوعوا تسيبوا رابعة؟”، وبعد أن اضطر لتركه، أبلغهم المستشفى بأن أبي توفي ، فكان الخبر صادما لجميع من كان حاضرا.
تم نقل الجثمان وإنهاء إجراءات الدفن، وشيع جمع غفير من أهالي الشرابية والقاهرة جنازة الشهيد أُبَي محمود، الوتي تحولت إلى مظاهرة ضخمة هتف فيها المشاركون للثورة المصرية، ونددوا بالمذابح التي ارتكبتها قوات الانقلاب العسكري.