أيمن عودة.. المهندس البارع والخطيب المفوه
من الناس من يبرع في مهنته، وآخر يشغله العمل العام وخدمة مجتمعه عن سائر شؤونه، وثالث يصرف جل وقته على أموره الخاصة وأهل بيته، وقليل من يجمع هذه الثلاثة، ومنهم بطل قصتنا
أيمن كمال عودة (45 عاما)، من مواليد 14 سبتمبر/أيلول 1968 بقرية سندوة التابعة لمركز الخانكة في محافظة القليوبية، وكان متزوجا وخلف وراءه ولد اسمه إسلام، و3 من البنات، هن إسراء ويُمنى ورحمة.
كان أيمن متميزا في مختلف مراحل عمره، حصل على درجة البكالوريوس من كلية الهندسة، قسم ميكانيكا، ثم التحق بالجيش، ورشح ضابط احتياطي ليقضي في الخدمة العسكرية 3 أعوام، عرف فيها بالانضباط والسلوك الحسن.
عقب إنهائه الخدمة العسكرية، التحق المهندس أيمن كمال بمعهد لإعداد الدعاة، حيث كان مهتما بالعلم الشرعي وتحصيله وإيصاله للناس، وعقب تجاوزه إياه عمل إماما وخطيبا بمسجد القرية، وبعد فترة وجيزة من الزمن، ظهرت خلالها مواهبه في الخطابة، صار يعرفه أغلب أهالي القرية ويحرصون على حضور خطبه ودروسه.
كان أيمن محبا لعمل الخير وخدمة الناس، لا يكاد يفرغ من عمله الخاص الذي كان يتفانى فيه، حتى ينشط في مسارات العمل الخيري والدعوي بنفس القدر من الاهتمام والتفاني.
رأس مجلس إدارة جمعية خيرية معنية بخدمات المجتمع والحالات الخاصة في قريته، ولم يكن يتأخر في تلبية نداء من يطلبه ويقصده دون تمييز أو تفضيل، وانعكس ذلك على موقف الجميع منه حتى من اختلفوا معه في الرأي، فقد حزن لمقتله جميع أهالي القرية.
تميزه وإتقانه فتح له الطريق للترقي في عمله الحياتي، حيث أصبح مديرا عاما بفرع شركة حديد عز في مدينة العاشر من رمضان، وكان مثالا للانضباط والالتزام والتفاني في عمله.
حاول محبوه وأهالي قريته الضغط عليه لترشيح نفسه في انتخابات مجلس الشعب، في دورة سبقت ثورة 25 يناير، وكذلك في المجلس الذي تشكل عقب الثورة، ولكنه رفض رفضا قاطعا، وأرجع ذلك لما يراه لنفسه من أدوار أخرى يراها أوفق لشخصيته.
يحكي طارق رجب وهو أحد أقاربه، عن فترة التحاقه ضابطا احتياطيا في الجيش، وكيف أنه برغم المآخذ والملاحظات التي كانت ظاهرة للعيان حينها من تجاوزات وفساد، لم يتذمر أو ينقم على جيش بلده، بل كان مثالا للالتزام والإخلاص في أداء دوره خلال الخدمة العسكرية.
عرفه أهالي القرية بالأدب الجم والخلق الرفيع والسمت الحسن، والإخلاص في النصح، ومن ذلك ما يستذكره صديقه عزت نجا، عن حديثه المتكرر مع أهالي قريته حول ما تواجهه من مشاكل، ويسعى في معالجتها ويستحضرها في خطبه على المنبر، ولذا كان يحبه أهالي القرية حبا شديدا.
كان يشارك الجميع في أفراحهم وأحزانهم، ويلجأ إليه الكثيرون للمشورة والنصح في مختلف مناحي الحياة، ويشهد له بعض أهالي القرية بأنه كان حريصا على تعليمهم سننا مهجورة، ومن ذلك أنه عرفهم بصلاة الخسوف والكسوف وصلاة التهجد، وصلاة العيد في الخلاء.
هذه السيرة العطرة، كتب فصلها الأخير كما كتبت فصول أخيرة كثيرة لسير عطرة مشابهة في مذبحة فض رابعة العدوية، حيث كان أيمن كمال، ضمن المئات الذين راحوا ضحية إصرار العسكر على فض الميدان، وأسالوا في سبيل ذلك سيول من الدماء الطاهرة.
وأمام منصة رابعة العدوية، وبينما يتجاوز أيمن شارع الطيران في اتجاه المنصة، ومعه ابنه إسلام وشقيقه ورفيقه سند، تحت وابل من النيران، طالته رصاصة قناص، أصابته أسفل بطنه، وخرجت من فخذه مارة بالحوض.
سقط أيمن فجأة على الأرض ونادى رفيقه سند، فرد عليه، أين الإصابة يا بشمهندس، فرد أيمن في بطني، وحين حاول سند معاينتها لم يجد بطنه مصابة، حيث عاين جزأها الأعلى، فظن أنه مرهق، ثم اكتشفوا لاحقا أن الإصابة كانت أسفل البطن وخرجت الرصاصة من الجانب الآخر.
يتفق ابنه إسلام مع صديقه سند في أن أيمن وبينما كانوا يحملونه إلى مكان مناسب لإجراء الإسعافات الأولية، قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وكررها ثم كبر، وبعدها توقف عن الكلام حتى فاضت روحه.
يحكي ابنه إسلام عن اللحظات التي سبقت استشهاده، وفي ذروة إطلاق الرصاص من كل جانب، وجد والده يرفع رأسه قليلا، فقال له، أخفض رأسك يا أبي حتى لا تصاب، فنظر إليه وتبسم وقال له، خلاص يا إسلام، فات الوقت، وأوصاه بأخواته البنات وأمه خيرا.
تحكي زوجته بهية، عن أيمن كزوج وشريك حياة، وتقول إن علاقتهما كانت مميزة ومختلفة، ثم تسرد صفاته وتقول إنه كان “حنونا وطيبا وبارا بأهله ويعاملهم بخلق الإسلام.. كما كان شديد الحياء حسن التعامل مع الجميع، له بصمة مع كل من يتعامل معهم، وكان محبا للناس لا يحمل غلا على أحد”
ومع تأكيدها على همه وانشغاله بالعمل العام إلا أنها تؤكد أن ذلك لم يشغله عن دوره وحضوره في المنزل واهتمامه بأولادهم، حتى لو تطلب الأمر أن يأخذ من عمله إجازات على حسابه الخاص وسط الأسبوع، ليوفي حق بيته.
كانت الزوجة المحبة لزوجها كثيرة الانشغال عليه، والخوف من أن يمسه سوء، خاصة بعد التحاقه باعتصام رابعة وتتابع المذابح التي لحقت المشاركين فيه، ووصل بها الأمر أن رأته في منام قبل الفض بيومين، عزز من خوفها وقلقها، وفي نهاية الأمر تحقق لكنها حمدت الله ورضيت بقضائه وقدره.
بينما تعبر ابنته إسراء عن افتقادها الشديد له، فقد كان حاضرا في مختلف تفاصيل حياة ابنه وبناته، وكان إضافة إلى دوره كأب، كان لهم الصديق والأخ، ويساعدهم في استذكار موادهم، ورباهم على حب الدين والوطن ونصرة المظلوم.
ترك استشهاده أثرا عظيما في محبيه، وظل في ذاكرتهم يدعون له ويسجلون ذكرياتهم العطرة معه، لسنوات لاحقة، وكغيره من الشهداء، قام البعض بأداء العمرة عنه بعد استشهاده وإهداء أجرها له.