أسامة السيد.. طالب الصيدلة الطموح
ربما بكاه أصحابه وأقرانه أكثر مما بكاه والداه وإخوته مع هول مفاجأة الفقد.. لا لقلة محبة وارتباط، وإنما ليقين استقر لدى أسرته القريبين من تفاصيل حياته واللامسين لطموحه الذي ما فتئ يتحدث عنه ويعمل له، بأن الشهادة ستصيبه يوما، وسينالها ولو بعد حين.
أسامة السيد (23 عاما) من مواليد مدينة الإسكندرية في 22 نوفمبر من عام 1990، كان طالبا في الفرقة الثالثة بكلية الصيدلة جامعة الإسكندرية، أكبر إخوته الأربعة، مازن وتسنيم وتسبيح وأفنان.
عرف أسامة طريق المسجد والتزم به منذ نعومة أظفاره، فتشكلت شخصيته على الحب والإخلاص في عمله ودراسته، والوفاء لرسالته، والتفاني في خدمة ذويه ومن قصده واحتاجه، كما كان بار بوالديه، محبا لأشقائه ومضربا للمثل في ذلك.
تحكي أخته تسبيح، عن علاقة مميزة كانت تجمعه بكل واحد منهم، وأسلوبه الفريد في النصح والتوجيه، والذي كان يعتمد فيه على الإقناع والإفهام، ولا يستغل كونه الأكبر بفرض أي أمر يراه.
أما جدته، فلا تكاد تملك العبرة وهي تأسى على شبابه، وتحكي عن بره بها فضلا عن بره بوالديه، ولا تجد بعد ذلك ما تقوله إلا الدعاء له بأن يرزقه الله الفردوس الأعلى من الجنة.
أحسن أسامة اختيار صحبته، فكانوا عونا له في دراسته وطريقه، وكما كان طامحا للشهادة، لم يمنعه ذلك عن طموح لتحقيق نجاح في دنياه، كما كان مرحا بشوشا مقبلا على الحياة، مشاركا في أعمال خدمة المجتمع سواء في كليته أو في حيه ومحيطه.
كانت شعبية أسامة واسعة بين أقرانه من طلبة كلية الصيدلة، لدوره الرائد في خدمتهم، والذي تجاوز أبناء دفعته ليشمل كل طلبة الكلية، فهو معروف بابتسامته وبشاشته لدى استقبال المستجدين من طلبة الكلية، وسعيه لتوجيههم وتبديد حيرة الأيام الأولى لوجودهم في حرم الجامعة والكلية.
يحكي أصدقاءه كيف كان يجد في مساعدتهم في كل ما يحتاجونه، ولا يبخل بوقته عليهم في ذلك، فهو المعين في المذاكرة، والموجه في قاعة المحاضرة.
هذه السمات الزكية والصفات الحسنة، أثمرت كذلك شخصية مخلصة لوطنها ساعية لمصلحة شعبه، فرغم تصادف أيام ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 مع امتحاناته، إلا أن ذلك لم يحل دون مشاركته في جمعة الغضب والتي التحق فيها بركب الثوار عقب خروجه من قاعة الإمتحان.
ومن بعدها، لم تنقطع صلة أسامة بفعاليات الثورة، والتي سيطرت على كيانه كما الحال مع أبناء جيله، وظل حاضرا قدر ما يتاح له، حتى وقع الانقلاب العسكري، فلم يهون ذلك من عزمه، واستمر يشارك في فعاليات رفض مصادرة حق الشعب والالتفاف على إرادته.
وعقب فض اعتصام رابعة العدوية بيومين، انطلقت المسيرات الحاشدة في محافظات مصر المختلفة، ومنها بطبيعة الحال محافظة الاسكندرية، حيث خرجت مسيرة حاشدة من المسجد القائد إبراهيم حتى وصلت إلى مسجد علي بن أبي طالب بمنطقة سموحة شرق الاسكندرية
كان أسامة مشاركا في تلك المسيرة، وعقب أدائه صلاة العصر في مسجد علي بن أبي طالب، خرج ليكمل مسيرته ولكن رصاصة غادرة انطلقت من قوات الجيش المتواجدة بمحيط المسجد لتفريق المسيرة واخترقت رقبته وحالت دون استكمال مشواره وارتقى شهيدا.
وفي مقطع فيديو شهير، يظهر أسامة وهو أعزل لا يحمل سلاحا وإنما يشير بعلامة النصر في وجه دبابات الجيش، وهو ثابت مقدام، في ظل صوت شديد لطلقات الرصاص المتتابعة، وبعدها بلحظات يظهر وقد سقط مدرجا في دمه بعد أن أصابته رصاصة الغدر في رقبته، ليقبل عليه الثوار ويسحبو جسده بعيدا عن مرمى النيران المستمر.
تحكي والدته، عن ملابسات الإستشهاد، فتقول إنه كان صائما في ذلك اليوم، وقد حاولت إثناءه عن الصيام في هذا ليو، لما صاحب ذلك اليوم من أجواء متوترة وحرارة عالية، لكنه أصر على الصيام، ونزل للمشاركة صباحا بعد أن أدى الفجر في وقته.
تتابع ساردة تفاصيل لم تنسها ولن تنساها عن آخر عهدها بسماع صوته، فتقول اتصل عليها بعد صلاة الجمعة للاطمئنان عليها، وفي نهاية المكالمة كرر عليها جملة غير معتادة منه في مثل هذه المكالمات حيث قال “استودعك الله يا أمي”.
وحين حاولت الاتصال عليه مرة أخرى عقب صلاة العصر، لم يجبها، وبعد عدة محاولات أجاب شخص آخر وأخبرها ان ابنها مصاب ونقل للمستشفى، فأبلغت والده الذي كان مشاركا في ذات المسيرة، وذهب الوالد يبحث عن ابنه، حتى صادف جسده على مدخل أحد المستشفيات وهو مغطى وعرفه من حذائه.
تقول أمه المكلومة، إن ابنها أسامة كان طالبا للشهادة، وكان يربي نفسه لكي ينال الشهادة على أعتاب المسجد الأقصى، لكن وحسب تعبيرها أتته الشهادة لينالها في وطنه.
تحكي شقيقته تسنيم، أنه كان أكثرهم برا بوالديه وأقلهم دخولا في مشاكل وخلافات مع غيره من إخوته، وكان بالنسبة لهم أبا بعد الأب وصديقا وسندا فضلا عن كونه أخا ناصحا ومحبا وداعما لجميع إخوته الأصغر منه.
سجلت له أختاه تسنيم وتسبيح، أغنية حظيت باحتفاء ومشاهدة عالية، تضمنت كلماتها “فين أسامة.. قلبه كان متوضى من نور الصلاة.. ضحكته الصافية بتدينى الحياة.. صايـم اليوم الأخير محلى لقـاه.. بالملايكة تزفه صايـم للقيامة..فين أسامـة”.
فيما يحكي صديقه يوسف كيف أن أسامة كان يتعهد أصدقاءه في الفعاليات ويحرص على تذكيرهم بالنوايا الصالحة وتعدادها لهذه المشاركة حتى لا يضيع أجرهم.
كان لأسامة قدرا كبيرا لدى أحبابه وأصحابه، وتتابعت الوقفات أمام منزله تردد هتافات داعمة لأسرته ومؤكدة على الوفاء لدمه وحقه، كما توافد المحبون إلى زيارة عائلته ليعبروا عن ذلك الحب والإخلاص والوفاء لدم أسامة، وفي مقابل ذلك استقبلت الأسرة ذلك بتأكيد الثبات على درب ابنهم وتمنيهم اللحاق به على ذات الطريق.
وفي سياق هذا الوفاء، نظم زملاء أسامة في كلية الصيدلة، حفل تأبين مهيب، حكوا فيه قصة استشهاده، وكيف أنه لقي ربه وهو صائم وآخر آيات ورده القرآني قوله تعالى “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه”.. حكوا فيه عن قدره لديهم، وكيف كانت سيرته ومسيرته بينهم.