أحمد قدري.. قلب طيب وابتسامة عذبة
“أتمنى الشهادة، وأن يكون دمي لعنة على كل أحمق حقود بعيد عن حب هذا البلد” كانت تلك من كلماته الأخيرة التي سطرها عبر صفحته الشخصية، قبل أن ينضم لركب ضحايا فض اعتصام ميدان رابعة في الرابع عشر من أغسطس/آب 2013.
أحمد عبد الحميد قدري محفوظ (45 عاما) من أبناء عروس الشمال محافظة الإسكندرية، كان مدرسا للغة العربية، ومدربا في تطوير المهارات والتنمية البشرية، ورحل مخلفا أسرة مكونة من زوجته جيهان محمد، و3 من الأبناء، فداء، وعبد الرحمن، وبشائر.
بتواتر شهادات الأهل والمحبين، شارك أحمد غيره ممن راحوا ضحية الانقلاب الغاشم في سمات الخير والصفات الحسنة، حيث عدد محبوه ضمن تلك الأخلاق الطيبة، وبر الوالدين، وحب الآخرين، والمسارعة في أعمال الخير، والمسابقة لإغاثة الملهوف ومساعدة المحتاجين، فلم يكن يرد صاحب حاجه قط، كما كان عطوفا على أبنائه، لا يبخسهم حقهم عليه رغم انشغاله بعمله وخدمة الآخرين.
عرف كذلك بالتواضع وتعلق قلبه بالصلاة والمسجد، وكان حافظا لكتاب الله، محبا للحق، مدافعا عنه مهما كلفه ذلك من تضحيات.
الوالد المكلوم الحاج قدري، الذي لم يكن يتمنى أن يفقد فلذة كبده في حياته، يصفه وهو يغالب دموعه، بأنه كان من “أفضل الرجال.. إنسان بمعنى الكلمة، يحب عمل الخير في الخفاء، مرهف الحس يراعى شعور الآخرين”.
تغالبه الدموع مرة أخرى لتشهد على أثر فقده ابنه عليه، والذي قال إنه فراقه وموته بهذه الطريقة أحرقا قلبه، ثم يقول “لا أملك إلا أن أقول: حسبي الله ونعم الوكيل”.
29 عاما عاشتها رفيقة دربه، جيهان محمد، في صحبته وكنفه، تؤكد أنها لم تجد منه خلالها سوى الحب والحنان والعطاء والرفق بالأبناء، واليقين العالي بنصر الله، فهو دائم التبشير به، كما كان حريصا على أن يبث في أسرته حب الخير وأهله، ويقول لهم إن ما يعمله الفرد من خير يعم أثره الطيب على سائر الأسرة.
صبيحة يوم فض رابعة العدوية، اتصل الابن الأكبر فداء بوالده بعد صلاة الفجر، وأبلغه بعزم قوات الانقلاب فض الاعتصام، ورجاه أن يخرج من الميدان لا يصاب بأي مكروه، فكان رد والده بأنهم لن يتحركوا من الميدان، وسيرى العالم أجمع أنهم سلميون لا يحملون سلاحا، ولم يكن يتوقع في ظل ذلك أن تقع المذبحة التي سيكون أحد ضحاياها.
عاود فداء الاتصال بوالده مرة أخرى بعدها بساعة تقريبا للاطمئنان عليه، ليؤكد له الوالد بدء عملية الفض، ليكرر الابن رجاءه لوالده بالخروج، ويكرر الوالد الرفض ويطلب من ابنه ألا يتصل به حتى يعاود هو الاتصال وطمأنته لانشغاله بإسعاف الجرحى والمصابين.
تأخر الوالد في الاتصال، فلم يطق الابن صبرا وعاوز الاتصال للاطمئنان، فجاءه صوت والده ضعيفا، فشعر بأنه مصاب، لكنه قال له إنه بخير، ثم حاول مرة أخرى الاتصال ليجد الهاتف مغلقا، وينقطع التواصل طوال اليوم، وتظل الأسرة في قلق تتلمس أخباره من هنا وهناك، لكن دون فائدة.
في صباح اليوم التالي للفض وبعد صلاة الفجر، كان فداء يتصفح الإنترنت ليعرف الأخبار، فكانت الصدمة عندما رأى صورة والده ضمن شهداء المجزرة، وقد كتب على جبهته مجهول، فأخبر والدته التي استقبلت الخبر بثبات ورضا وقالت الحمد لله على كل شيء، ودعتهم لأن يسجدوا شكرا لله بأن اصطفى من عائلتهم شهيد.
وهنا بدأت رحلة معاناة وألم أخرى للبحث عن جثمان الشهيد أحمد قدري، وذهب ابنه فداء إلى القاهرة مع عمه؛ حيث وصلوا إلى مسجد الإيمان؛ بعد أن علموا أن معظم الجثامين نقلت إليه، ولم يستطيعوا أن يدخلوا المسجد للازدحام الشديد، ليرده بعدها اتصال من أحد أصدقاء والده ينصحه بالذهاب إلى مشرحة زينهم، لوجود جثة محروقة يعتقد أنها لوالده.
على الفور ذهبوا إلى المشرحة، وقبل دخولهم إليها، وفي أحد الشوارع الجانبية كانت الجثث ملقاة، يمينا ويسارا، وبعد أن عاين عم فداء عددا من الجثث، هاله ما رآه، فمن بينها جثمان امرأة، وآخر لطفل لا يتعدى حجمه طول الذراع، وكاد أن يفقد وعيه فلم يستطع إكمال الأمر.
يستذكر فداء بعض ما شاهده من أهوال خلال تلك المعاناة وكان من أكثر المشاهد التي آلمته جثة محترقة، بمجرد أن فتح الكيس عنها إذا بالجلد يتساقط بصورة مفزعة، مضيفا “لقد رأيت ما لم أتخيل في حياتي أن أراه”.
لم يجدوا الجثمان في تلك المحاولة، وتركوا المشرحة؛ مع بدء وقت الحظر، وعند الساعة الواحدة ليلا، وردهم اتصال من شخص بمسجد الإيمان يخبرهم أن هناك جثثا في المسجد لم يتعرف على أصحابها، ولكن حين ذهبوا لم يجدوا أي جثث، وعرفوا أن قوات الانقلاب أخلت المسجد.
استمرت عملية البحث لتشمل 7 مستشفيات، ومن كثرة وهول المشاهد التي رآها فداء وعمه، بات صعبا عليهم متابعة البحث، وبعد أن أعيتهم عملية البحث شرعوا في سؤال من بقي من رفاقه حيا عن آخر مكان كان فيه قبل استشهاده، في محاولة لتلمس الطريق من أوله.
وفي جمعة الغضب التي أعقبت يوم الفض بيومين، وأثناء معاودتهم الذهاب إلى المشرحة، وردهم خبر وهم في الطريق إليها أن هناك 8 سيارات بها جثامين، ومن ثم انطلقوا إلى تلك السيارات للبحث فيها.
وهناك، وجد فداء جثمان أبيه مصابا برصاصتين في الجنب، ورصاصة أخرى في البطن، فكان الموقف صعبا ولم يتمالك نفسه، أمام الموقف، وفي لحظة كان أن ينهار، إلا أنه جلس بجانب جثمان والده، وحمد الله، أن اصطفاه شهيدا؛ وربط الله على قلبه حينما وجد إصبع سبابة أبيه مرفوعا، وكأنه كان ينطق بالشهادة حين الوفاة.
ينظر فداء إلى والدته وهو ساكنا، ويتذكر رده عليه حينما كان يخرج على أطراف الميدان مبتسما، مع كل ورود أنباء عن هجوم بلطجية، حين يحذره من أنهم مسلحون، فيقول له “يا بني حينما يشاهدونا ونحن مبتسمون لهم ونحبهم ولا نحمل سلاحا بأيدينا سيرجعون لأنهم سيدركون حينها أننا نحبهم”.
يتساءل فداء في أسى، لماذا بعد كل هذا يقتل هذا الإنسان الطيب المسالم.
عادت الأسرة بجثمان الشهيد أحمد قدري إلى الإسكندرية وشيع في جنازة مهيبة إلى مثواه الأخير، وبقي الألم متقدا في نفوس أسرته، مع رضا وإيمان بأن الله اختار أحمد قدري واصطفاه، وأن حقه سيعود ولو بعد حين من الإمهال للظالم الذي سيلقى جزاء ظلمه مهما طال الأمد.