ياسر مجدي عبد التواب معاذ 23 عاما، من مواليد مركز “أبي صوير” في محافظة الإسماعيلية، كان طالبا في المعهد التكنولوجي العالي للهندسة، كما كان الولد الوحيد لثلاثة شقيقات، قُتل في مذبحة فض اعتصام رابعة العدوية يوم 14 أغسطس 2013.
شارك ياسر في ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، وظل معتصمًا مع والده في ميدان التحرير حتى تنحى الرئيس المخلوع حسني مبارك. عرف بحسن الخلق، والشهامة، والعطف على الأيتام، وبر الوالدين، كما كان أخًا حانيًا على أخواته البنات. تميز بخفة الظل، وبالقبول النفسي لدى كل من يتعامل معه؛ كان بشوشًا؛ حيث كانت ابتسامته الدائمة تضيء وجهه الطاهر البريء.
تقول والدته إن ياسر رجلاً منذ طفولته يمكن الاعتماد عليه؛ حيث تحمل المسؤولية باعتباره الأخ الذكر الوحيد لـثلاث أخوات، شارك في اعتصام ميدان رابعة اعتراضا على وقف المسار الديموقراطي لمصر. كان يأتي إلى المنزل بين الحين والآخر؛ ليبدل ثيابه، إلا أنه في المرة الأخيرة التي جاء فيها إلى المنزل، قام بأعمال لم يكن يقوم بها من قبل، وذلك على خلاف عادته؛ حيث طلب مني أن أجهز له الحلوى؛ ليوزعها على زملائه في الاعتصام، وهو الذي كان يرفض دائمًا أن يأخذ أي طعام معه، كما طلب ثيابًا قليلة جدًا مقارنة بما كان يأخذه من قبل؛ قائلاً “سآخذ القليل من الثياب، وإن شاء الله سوف أرسل يوم الجمعة أحد الزملاء إليكِ ليأخذ ثيابًا أخرى إن احتجت إليها؛ هذا إن أمهلني القدر حتى يوم الجمعة”.
كان حريصًا على أن يأخذ العطور معه عندما يذهب إلى الميدان، كان ينظر إليّ نظرات غريبة وعميقة غير معتادة، وكأن عينيه كانتا تودعاني إلا أنني لم أفهم ذلك وقتها، وعندما همّ بالرحيل، ودّعته، وقلت له “أستودعك الله يا ياسر”، ثم تابعته كالعادة من شرفة المنزل ثم دخلت، لكنني حدثت نفسي، وقلت “لم لا تعودي مرة أخرى إلى الشرفة؛ لتنظري إليه حتى يغادر الشارع”؛ وبالفعل عدت، وظللت أنظر إليه حتى اختفي من الشارع.
تقول آلاء إحدى شقيقاته “كان ياسر نعم الأخ، والصديق، ومنذ رحيله غابت الابتسامة عن وجهي وعن البيت كله؛ فقد كان يمزح معنا ودائمًا يضحكني، ويمازحني، ويخفف عني، رحمه الله رحمة واسعة، وعجل لنا بالقصاص ممن قتله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.”
قال خالد أحد أصدقاء ياسر “كان بالنسبة لي أخًا قبل أن يكون صديقًا، بل كان توأم روحي، كنت أشترك معه في كل الفعاليات تقريبًا في اعتصام ميدان رابعة العدوية. وأشهد أنه كان متدينًا جدًا، وكان دائمًا في الصفوف الأولى، وكان قليل الجلوس في الخيمة، وكان يسارع إلى تقديم المساعدة لجميع المعتصمين، وقد نزل عليّ الخبر كالصدمة، وظللت أبكي، وعندما تذكرت أعماله الطيبة، قلت في نفسي على مثل ياسر تبكي البواكي.”
أما محمد عبد الله طه، الذي كان صديقاً آخر ياسر فقال إنه كان يعرفه منذ المرحلة الإعدادية، ” كان يجلس معي في المسجد، كنا معًا شهود عيان على مذبحة الحرس الجمهوري، والمنصة، وفي يوم مجزرة المنصة؛ كنت أنا وياسر في المقدمة، وعندما اشتد إطلاق الرصاص من قبل قوات الأمن على المعتصمين تفرقنا، ثم قابلته بعد انتهاء المجزرة، فعلمت أنه أصيب، فغبطته كثيرًا، وقلت طالما أنه أصيب؛ فبالتأكيد هو أفضل مني، وإيمانه أعلى مني وآخر لقاء جمعني مع ياسر كان ليلة الفض، فكان يريد أن ألتقط له صورة، ثم قال لي “هذه صورة الشهادة.”
تحكي والدته عما حدث يوم 14 أغسطس 2013م “استيقظت فجرًا على الأخبار في القنوات الفضائية، ولأن ابني كان يقف مع المعتصمين المسؤولين عن تأمين الميدان ،حاولت الاتصال به فكان هاتفه مغلقًا، وفوجئت به يتصل بي من هاتف صديق له، عرفت فيما بعد أنه أصيب في هذا الوقت بالخرطوش، وذهب إلى المستشفى الميداني بالاعتصام لعلاج إصابته، ثم عاد مرة أخرى؛ ليتقدم الصفوف مدافعًا عن الميدان. ظللت أتواصل معه طوال اليوم عبر هاتف صديقه، فكان يرد عليّ بين الحين والآخر، وكنت أشعر بالاطمئنان كلما سمعت صوته على الرغم من صوت رصاص أمن الانقلاب الذي كان يغطي على صوته البريء، بعد الظهر اتصلت على هاتف صديقه مرة أخرى، فأخبرني أن ياسر ابني ليس بجواره، ولا يعرف إلى أين ذهب، حينها انقبض قلبي، وظللت أَلحّ على صديقه أن يخبرني الحقيقة، وهل ابني مازال بخير، وكان صديقه رفيقًا بي؛ فكان يطمئنني ويهدئ من روعي.
وفي الساعة الرابعة عصرًا؛ فوجئت بولدي ياسر يتصل بي من هاتف صديق آخر؛ ليطمئنني أنه بخير، لكن صوته كان غريبًا تبدو عليه ملامح الإعياء الشديد، ولم يزد على أنه بخير ولم يخبرني بشيء آخر، وكانت تلك المكالمة آخر مكالمة وآخر لقاء له معي في الدنيا، وبعد ساعة تقريبًا، جاءنا الخبر على هاتف علياء أخته؛ حيث سمعتها تصرخ وهي ممسكة بالهاتف، وتقول “لا ياسر لا.. ياسر لا”؛ فهرعت إليها وأنا أظن أن مكروهًا حدث لشخص آخر اسمه ياسر، وعندما سألتها أجابتني وهي منهارة “ياسر قُتل.”
جلست فترة طويلة في حالة ذهول وعدم تصديق، ظللت أقول لمن حولي “تأكدوا من الخبر أكيد مش ياسر ابني”، حتى جاء عمه، وأكد لي الخبر؛ فما كان مني إلا أن قلت “لا إله إلا الله، إنا لله وإنا إليه راجعون” بصوت أسمع الإسماعيلية كلها.
تقول والدته نجح عم ابني ياسر وبعض أصدقائه في تسلم جثمانه ، وحضروا به في اليوم التالي، الخميس الموافق، ورأيته قبل أن تتم مراسم الغسل والتكفين، بدا وكأنه ليس شخصًا ميتًا على الإطلاق، فكأنه نائم فقط، وسبحان الله رأيت وجهه منيرًا مبتسمًا، فقلت له وأنا أبكي “أنا ماما يا ياسر”؛ فشعرت وكأن عينيه ترمشان، وقمت بتقبيله؛ فشعرت وكأن خده يتحرك تجاهي، وكأنه أراد أن يسلم عليّ ويودعني، ظننت أنني أتخيل، إلا أن من كانوا معي أخبروني بأنني لم أكن أتوهم، فقد رمشت عيناه، وتحرك وجهه تجاهي عندما حدثته، ظللت أقبله وهو في حضني، وقلت له “أستودعك الله يا ياسر.. أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه”، وظللت أدعو الله “اللهم أكرم ضيفك اليوم”.
ثم قالت إنها تحمد الله تعالى أن جعلها أمًا لشهيد، قتل بيد سلطان متجبر جائر، ياسر ابني كان صاحب قضية، صاحب مبدأ، دافع عنه حتى آخر نفس، كما أنني على يقين بأن تلك الأرواح الطاهرة التي أزهقت غدرًا، وتلك الدماء التي سالت إنما هي ثمن غالٍ للحرية، وللكرامة، وللعدالة، ولتحرير البلاد من قبضة العسكر وأسأل الله أن يكون قريبًا.