لم يمهله العسكر ليسعد بطفله الذي لم يمض على خروجه للحياة سوى 5 أيام، فرصاص قناصهم كان أسبق، لتكتب يتما عاجلا للطفل الذي طالما كان يحلم به ويمني نفسه باليوم الذي يعود ليحضنه.
سعداوي محيسن أبو جميل (39 عاما) ولد في قرية الميمون التابعة لمركز الوسطى في محافظة بنى سويف، وكان يعمل مدرسا وأخصائي مكتبات في مدرسة الميمون الإعدادية، والتي أصر أهل القرية على تسميتها باسمه بعد استشهاده، تخليدا لذكراه وتقديرا لمكانته.
كان سعداوي متزوج، ولديه بنتان هما حماس ومريم، ورزقه الله بابنه محمد قبل موعد استشهاده بخمسة أيام فقط، لتتحول فرحة الأسرة والمحبين بهذا الوافد الجديد إلى ألم وحزن بفقد والده.
كان إلى جانب وظيفته كمدرس، مجيدا لحرف أخرى، منها الطبخ، والنقاشة (طلاء الجدران)، إضافة إلى اقتحامه مجال أعمال المقاولات الذي كان ناجحا فيه معروفا بسمعته الطيبة وعلاقاته الاجتماعية الواسعة، وكان معروفا باحترافه لما يقوم به، متلمسا في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم “إن الله يحب المؤمن المحترف”.
عُرف بين أصدقائه وأهله بحسن خلقه وحبه لخدمة الآخرين، كما كان له نشاط بارز في الدعوة إلى الله وقضاء حوائج زملائه وأهل قريته، وكان على علاقة بجماعة الإخوان المسلمين في قريته منذ المرحلة الثانوية، حيث فرغ من خلال نشاطاتها طاقته وهمته العالية التي كان يتمتع بها وخاصة في مرحلته الجامعية.
كان يبذل الكثير من وقته في أعمال الخير والعمل التطوعي، ومن ذلك نشاطه الملحوظ في اللجان الشعبية التي كانت تخدم أهالي القرية، ومشاركته الفاعلة في حل الأزمات المجتمعية ومنها أزمة أنابيب الغاز.
كان حريصا على نفع الآخرين في مختلف المسارات، ومن ذلك ما قام به خلال فترة عمله بإحدى مدارس البنات في بني سويف، حيث استطاع إقناع عدد كبير من طالباته بالانضباط الخلقي والاحتشام في ملابسهم.
كانت علاقاته وطيدة بزملائه في العمل وأقاربه وجيرانه، حيث كان معروفا بنشاطه الاجتماعي وحبه لتكوين العلاقات المثمرة، الأمر الذي جعله شخصية مؤثرة في كل من حوله خاصة زملاءه في الدراسة والعمل.
وهبه الله ملكة الخطابة؛ فقد كان مفوهًا بليغًا؛ يحسن توصيل المفاهيم والقيم إلى مستمعيه، كما كان ثوري الروح؛ يحب العدل والحرية، ويكره الظلم، ولذا لم يكن من المستغرب مشاركته في ثورة 25 يناير 2011 من يومها الأول، كما كان حاضرًا في كل الفعاليات المصاحبة لها، والتي تلتها.
وبعد الانقلاب العسكري الذي قام به قائد الجيش حينها، عبد الفتاح السيسي، في الثالث من يوليو/تموز 2013، شارك في كل الفعاليات المطالبة بعودة الشرعية، واعتصم في ميدان رابعة منذ اليوم الأول وحتى يوم استشهاده، وكان ذا حضور في الدفاع عنه وحمايته
ليلة مجزرة النصب التذكاري، التي وافقت 17 رمضان، كان سعداوي موجودًا في خيمته باعتصام ميدان رابعة، وفي الصباح استمع إلى أحد المتحدثين على المنصة، وبعد انتهاء الحديث كبّر ثلاث تكبيرات.
وحين علم بوجود استهداف للمعتصمين عند النصب التذكاري وسقوط قتلى وجرحى، واستعد للذهاب إلى هناك، قال له أحد رفاقه: “ابق هنا حتى لا تصاب بطلق ناري” فداعبه قائلًا: “الرصاصة التي كتب عليها اسمي لم تصنع بعد”.
انطلق سعداوي إلى مكان المجزرة لنجدة إخوانه، والمشاركة في نقل الشهداء والمصابين، ولم تكد تمر 10 دقائق حتى عاجله قناص برصاصة في الرقبة فمات على الفور.
تقول إحدى الطبيبات بالمستشفى الميداني في رابعة العدوية إنها رأت سعداوي مبتسمًا وهو يرفع السبابة، وأصرت أن تنقل هذه الصورة إلى الخيمة التي يقيم بها أهل بلدته لتبشرهم بما يظهر من مؤشر على حسن خاتمته.
كانت جنازة سعداوي مهيبة حاشدة؛ لم تشهد قريته لها مثيلًا من قبل، وبسبب استشهاده انطلقت 3 مسيرات في قريته شارك فيها كثيرون من غير المعتصمين في ميدان رابعة، كما بدأ شباب قريته حملة يطالبون فيها بمقاطعة كل من فوضوا السيسي.
وكانت منظمة “هيومن رايتس ووتش” قد ذكرت متظاهرين رافضين للانقلاب العسكري، لا يقل عددهم عن 74، قتلوا في اعتداء عناصر الأمن المركزي ومع مجهولين بثياب مدنية، بإصابات مباشرة في الرأس أو الصدر، يوم 27 يوليو 2013، وذلك في اعتداء استمر عدة ساعات بأحد الطرق القريبة من اعتصام رافضي الانقلاب العسكري في رابعة العدوية، بالقاهرة.
في ذكرى المذبحة، أحيى أبناء قرية الميمون، ذكراه بمسيرات ووقفات وفاء لدمه وتأكيدا على مطالبه التي مات لأجلها، حيث رفعوا صوره وطالبوا بالقصاص من قتلة، مؤكدين مواصلة الطريق على دربه، رغم ما كانت تعانيه القرية حينها من حصار امتد لأكثر من 4 أشهر.