أحمد عبد اللطيف.. شهيد جمعة الغضب بالإسكندرية
“سامحني يا أبي.. كنت أتمنى أن أكمل معك باقي المشوار” كانت تلك آخر كلمات ودع بها بطل قصتنا والده وهو يلحق بركاب الغاضبين في جمعة الغضب بالثامن والعشرين من يناير/كانون ثاني 2011، ليَرِدَ نبأ سقوطه شهيدا بعدها بساعة، برصاص قوات الأمن الذين كانوا يقفون أعلى قسم شرطة الرمل ثان بالإسكندرية.
أحمد عبد اللطيف، الشهير بـ “أحمد كاوتش” (21 عاما) من مواليد 15 مارس/آذار 1989 وهو من منطقة سيوف في محافظة الإسكندرية، وكان طالبا في السنة الرابعة والأخيرة بالمعهد العالي لصيانة الحاسب الالي.
كان أحمد يجمع ما بين الدراسة والعمل، حيث كان يعمل في ورشة لإطارات السيارات مع خاله، والذي بدأ العمل بها وهو في السابعة من عمره، ليساهم في معيشة أسرته ويساعد والده المريض في ذلك، حيث كان حريصا على ألا يكلفه أيا من احتياجاته، فضلا عن المساهمة في دعم احتياجات أسرته، المكونة من 4 أخوات إلى جانب والديه.
ورغم صغر سنه، ساعد أحمد والده في تجهيز شقيقاته الأربعة للزواج، وكان في طريقه هو الآخر لدخول عش الزوجية، حيث كان مقبلا على الحياة طموحا، مجتهدا في دراسته وعمله، الذي لجديته فيه وارتباطه به، لقب بين أقرانه ومعارفه بـ “أحمد كاوتش”.
عرفه أصحابه وأهل منطقته شابا مثابرا، جادا في أموره، محددا لأهدافه، ساعيا لتحقيقها في إخلاص وعزم، ومع مرض والده، كانت أسرته تعتمد عليه اعتمادا شبه كليا للقيام بشؤونها وتحمل تكاليف الحياة، وكان يقدم في ذلك النموذج الملهم.
ولم تمنعه جديته في العمل وتحمله مسؤولية الأسرة والقيام بشؤونها المختلفة أن يجتهد في دراسته، ويسعى لتحقيق طموحه بالعمل على تطوير إمكانياته وتحسينها، للحصول على شهادته التي تؤهله لوظيفة أفضل يكون لها دور في تحسين وضع أسرته الاقتصادية.
كان وقع خبر استشهاد أحمد شديدا على والديه، فما إن تأكد الوالد من خبر مقتله حتى وقع مغشيا عليه، وحين أفاق وجد زوج ابنته لا يكاد يتمالك نفسه من البكاء والعويل وهو أمام جسد ابنه المسجى داخل إحدى ثلاجات المشرحة.
بينما كان الوقع أشد على والدته الذي كان وحيدها على 4 بنات، واستمر أثر هذا الفقد شديدا عليها، ورغم المحاولات الحثيثة من بناتها لمعاونتها على تجاوز الأمر عبر تغيير شكل غرفته ومحاولة إخفاء جميع مقتنياته وملابسه حتى لا تتذكره فيزداد ألمها، إلا أنها قاومت كل ذلك، وأبقت لنفسها إحدى قطع ملابسه، ترتديها تحت ملابسها حتى يظل في ذاكرتها.
ومن تعلقها بابنها ومقتنياته، لا تزال الأم تحتفظ بجبيرة معدنية، تقول إن ابنها استخدمها لتقويم أنفه عقب إجرائه عملية جراحية في مايو/أيار 2010 لاستعدال جزء كان معوجاً فيها، وبعد أن نزعها بعد 3 أشهر كما أمر الطبيب، لم تشأ أمه أن ترميها، وإنما احتفظت بها وسط ملابسها، فبقيت لها كذكرى لفقيدها الغالي.
كان أحمد على وشك إنهاء عامه الأخير في المعهد العالي للحاسب الآلي، حيث لم يبق له إلا الترم الثاني من ذلك العام، وكان قد بدأ في تأهيل نفسه لسوق العمل، عبر استقطاعه قدرا من دخله الشهري لشراء جهازه الخاص قطعة قطعة، كما اشترى منضدة لهذا الجهاز، الذي تركه ضمن مقتنيات بقيت شاهدة على طموحه وجده واجتهاده.
كان أحمد قليل الكلام و الحديث عن طموحاته وأهدافه الخاصة، ولذا نشطت الأسرة بعد رحيله للتفتيش في أوراقه وكتبه، لعلهم يعثرون على ما يكشف جانبا من غموض حياته، إلا أنهم لم يجدوا سوى خطاب كان يحتفظ به يوجهه لفتاة غير معروفة، يعرض عليها الزواج.. حاولت الأسرة الوصول إلى شخصية تلك الفتاة لكنها لم تنجح.
اعتاد أحمد أن يدخل إلى المنزل بعد منتصف الليل عقب انتهاء عمله، يتناول عشاءه وكوب لبن دافئ ومعلقة عسل نحل، ويفتح الحاسوب الذي اقتناه حديثا بعد استكمال قطعه، على إحدى المقطوعات، طالباً من والدته أن تغلقه في حال غط في النوم، ويستيقظ في صباحه الباكر ليبدأ يوما جديدا.
تستذكر والدته الحاجة فريدة أحداث ليلته الأخيرة، حين خرج من منزله يوم جمعة الغضب، والأجواء مشتعلة، وهي وحدها في المنزل تنتظر خطاب الرئيس المصري حسني مبارك، قبل خلعه، ولم تسمع صوت أحمد وهو يسألها إن كانت تريد لبناً أم لا قبل أن يصعد، استمعت إلى خطاب مبارك، ولم تدر إلا وأصدقاء ابنها ينادون في الخارج “أحمد كاوتش” اتصاب.
بدأ الوالد رحلة البحث الأب بصحبة الجيران، حتى عثروا عليه في المشرحة، وعلموا أن الشرطة كانت تطلق الرصاص الحي على المتظاهرين من أعلى سطح القسم.
يحكي زوج أخته أن الجميع كان يختبئ خلف سيارة أو شجرة، لكنه لم يكن يخشى الرصاص، وكان يتقدم تجاه القسم حتى ضرب بأربع رصاصات، ثلاثة في صدره ورابعة في رقبته.
لاحقا، تم إلقاء القبض على المقدم وائل الكومي مأمور قسم شرطة الرمل ثان، المتهم بقتل أحمد و18 ممن سقطوا أمام القسم،
وهو يحاول مغادرة البلاد، لكن وبعد الانتكاسة التي لحقت بثورة يناير ووقوع الانقلاب العسكري، قضت محكمة جنايات الإسكندرية في فبراير 2014 ببراءته وضباط آخرين من تهم قتل متظاهري ثورة يناير.
أوكلت الأم المكلوم أمرها لله فقد كانت تتوقع حصول مبارك وأركان نظامه وضباطه على البراءة بعد الانقلاب، لأنه في تقديرها عاد النظام البائد للحكم مرة أخرى، فيما أبدى والده يقينا كاملا بأنه إذا لم يحصل القصاص العادل في الدنيا، فالملك العدل لن يضيع عنده حق في الآخرة