لكل حكاية بداية، ولكل سلسلة حلقة أولى، وبطل قصتنا كما أنه كان أول دفعته في الثانوية الأزهرية بمحافظة البحيرة (دلتا النيل)، قبل أن يلتحق بكلية الطب في جامعة الأزهر، كان أول قتيل يسقط برصاص قوات أمن الانقلاب في مدينة طلاب الأزهر، دون مراعاة لحرم جامعي ولا لمسكن يفترض بهم حمايته وحماية ساكنيه.
عبد الغني حمودة الدقماق (24 عاما) ولد في العاشر من أكتوبر/تشرين أول 1989 بقرية “ديبى” مركز رشيد التابع لمحافظة البحيرة، وكان طالبا بالفرقة السادسة في كلية الطب جامعة الأزهر، والتي التحق بها بعد أن تجاوزت نسبته 100% في الثانوية الأزهرية.
كان محمد من أسرة مميزة ومثالا للأسر المكافحة والطموحة، فوالده المزارع البسيط ووالدته ربة المنزل، أنجبا محمد و6 أشقاء وشقيقات، أولهم طبيب عظام، والثاني طبيب نساء، والثالث معيد بكلية الشريعة في جامعة الأزهر، كما كان له شقيقة طبيبة بشرية، وثانية صيدلانية، وأخرى طبيبة أسنان.
يصفه أشقاؤه وشقيقاته بالأخ الطيب الحنون، والرجل المكافح الخدوم المحب لعمل الخير ومساعدة الغير، الهادئ الخلوق المسالم، الذي لا يؤذي أحدا، إلا أن ذلك لم يكن ليتعارض مع وقوف حازم مع الحق، ولم يجعله يتأخر عن إعلان الغضب الهادر أمام المذابح التي ارتكبتها قوات الجيش والشرطة بعد إعلان الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو/تموز 2013.
يوم الأربعاء، الموافق للعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 2011، اقتحمت قوات الانقلاب العسكري المدينة الجامعية لطلاب الأزهر بمدينة نصر، وذلك للمرة الأولى، رفقة عشرات البلطجية ومدرعات للجيش، وقامت بالاعتداء على الطلاب بالرصاص الحي وطلقات الخرطوش وقنابل الغاز.
أسفر هذا الهجوم البربري، عن إصابة العديد من الطلاب، فيما كانت إصابة عبد الغني بطلقات خرطوش في الرقبة من مسافة لا تتعدى بضعة أمتار، وهو ما أدى لوفاته وكان قرب بوابة المدينة على مرأى ومسمع عربات الإسعاف ورجالها، الذين تواطؤوا مع قوات الأمن في الاعتداء على الطلاب يومها، حيث تباطؤوا عن القيام بدورهم تجاه “عبد الغني” وغيره من الطلبة المصابين.
في اليوم التالي، أعلن المتحدث باسم مصلحة الطب الشرعي، الدكتور هشام عبد الحميد، أنه تم “الانتهاء من تشريح جثمان الطالب عبد الغنى حمودة الذي توفي في أحداث العنف التي شهدتها المدينة الجامعية لجامعة الأزهر، وتبين من تشريحه وفاته نتيجة طلق خرطوش بالرأس”.
وأوضح عبد الحميد في تصريحه أن “طلقة الخرطوش اخترقت رأس الطالب من الخلف إلى الأمام مما أصابه بتهتك بالجمجمة وإصابة العنق، وجاءت الطلقة من على مسافة حوالي 6 أمتار”.
فاقمت هذه الجريمة من غضب طلاب الأزهر الذين كانوا حينها وقود الحراك المناهض للانقلاب، وشعلته المتقدة، وأعلن اتحاد طلاب طب الأزهر في الرابع والعشرين من نوفمبر 2013 إضرابا عن الدراسة، وقدموا عدة مطالب أهملها، تحقيق فوري مستقل وعادل في قتل الطالب عبد الغني حمودة، وعدم السماح لقوات الشرطة والجيش والبلطجية بدخول الحرم الجامعي دون إذن من النيابة.
وامتد الغضب حينها لطالبات الأزهر حيث خرجت العشرات منهن للتظاهر في مدينتهن الجامعية، قبل أن يصعدن بالخروج إلى شارع يوسف عباس، تنديدا باستمرار حصار قوات الانقلاب لمدينة الطلاب، واستنكارا لاقتحام المدينة الذي أدى إلى مقتل الطالب عبد الغني وسقوط العديد من الجرحى.
وكان من تداعيات الغضب الطلابي، أن قام زملاؤه في المدينة الجامعية، بتغيير اسم المبنى الذي كان يقطن فيه عبد الغني، ليحمل اسمه تكريما له، وكان في السابق يحمل اسم رئيس الجامعة الأسبق أحمد عمر هاشم.
وعلى إثر ذلك، تضامن نشطاء وكتاب وحقوقيون مع الغضب الطلابي، وفي هذا الإطار، استنكر الكاتب الصحفي فهمي هويدي في مقاله “صراعنا الخفي حول الحقيقة والتاريخ”، ما يحدث لطلاب الجامعات المصرية، وتطرق لما حدث مع “عبد الغني” حيث استهجن الصمت الذي خيم على إدارة جامعة الأزهر التي لم تستنكر أو تدين ما قامت به قوات الانقلاب من اقتحام المدينة الجامعية وقتل طالب واعتقال 17 آخرين.
تتابع تفاعل طلاب الأزهر مع الحدث، وكانوا مصرين على رفع صوتهم إيصاله للجميع بشتى الطرق والأساليب، وفي هذا الإطار، قاموا بتنفيذ عمل فني أمام مبنى كلية الطب، جسدوا فيه مجريات أحداث تلك الليلة الدموية، التي تخللها مقتل عبد الغني، حيث قامت مجموعة طلابية بعمل مشهد تمثيلي يحكي ما قامت به قوات الانقلاب من قتل لعبد الغني بدم بارد.
في الثامن والعشرين من ديسمبر/ كانون أول 2013، تقدم الدكتور حسام حمودة، شقيق بطلق قصتنا ببلاغ للنائب العام حينها المستشار هشام بركات، ضد كل من وزير الداخلية، وقائد قوات الأمن المركزي والعمليات الخاصة المسئولة عن تأمين محيط المدينة الجامعية بنين، ومأمور قسم ثان مدينة نصر، ورئيس جامعة الأزهر، ومدير عام شئون المدينة الجامعية.
وحمل الدكتور حسام في هذا البلاغ، من اتهمهم مسئولية قتل شقيقه، وحتى وقت نشرنا لهذه القصة، لم تتلق أسرة عبد الغني أي رد من مكتب النائب العام على بلاغهم، حيث لم يقم النائب العام من الأساس بتحويل هذا البلاغ للتحقيق فيه.
كان للدكتور عبد الغني كتابات وتدوينات مختلفة، منها تدوينة استنكر فيها بشدة الجريمة التي ارتكبتها إسرائيل على الحدود مع مصر، في أغسطس/آب 2011 بعد أشهر من ثورة 25 يناير، وراح ضحيتها 5 من عناصر الجيش المصري، وقوبلت باستياء شديد من قبل المصريين، وكان من تداعياتها اعتصام الآلاف أمام مقر السفارة الإسرائيلية وإنزال العلم الصهيوني من على المبنى.
كما كانت له تدوينة أخرى نشرها في سبتمبر/أيلول 2011، عدد فيها خمسين سببا يدفعونه لقول “أنا مش آسف يا ريس”، ومنها “علشان عيشتنا في جوع ومرض وحرمان 30 سنة وكنت عايز المحروس ابنك يكمل علينا 30 سنة تانيين”، و”لأنك سبت شبابنا يموتوا في قوارب الموت على شواطئ إيطاليا”، و”لأنك سبت البطالة تحاصرنا وتخنقنا”.
أحيا طلاب الجامعات في مصر الذكرى الأولى لسقوط الطالب عبد الغني، في 23 نوفمبر 2014، عبر مسيرات ووقفات بجامعات مصر المختلفة، وأعلنوا حينها أن الهدف من هذه الانتفاضة التأكيد على مواصلة النضال حتى تحقيق القصاص العادل لعبد الغني والشهداء جميعا.
كانت جنازة طالب الطب عبد الغني حمودة غاضبة بقدر الغضب الذي كان يملأ أفئدة زملائه الطلاب بسبب ما كانوا يتعرضون له من اعتداءات وجرائم من قبل قوات الانقلاب، وشهدت مشاركة حشود غفيرة، رغم الخروج بها في ساعة متأخرة، حيث ردد المشاركون هتافات غاضبة تنادي بحق عبد الغني وغيره من ضحايا الانقلاب العسكري.