سهيل الصادق.. نور عين والده

لم يكن كافيا أن يقتل بطل قصتنا بـ7 رصاصات، توزعت على مختلف أنحاء جسده، فطبيعة القاتل الدموية، دفعت إلى أن يحرق جثمانه ضمن جثامين العشرات ممن قتلوا بفض اعتصام رابعة، في مشهد غير مسبوق، أظهر قدرا كبيرا من البشاعة والقسوة.

سهيل محمد الصادق خطابي (20 عاما) من مواليد 15 أكتوبر1993، من قرية القرين بمحافظة الشرقية، كان طالبا في الفرقة الأولى بكلية التربية قسم اللغة الإنجليزية، وكان الأول على دفعته بمعهد القرين الثانوي الأزهري، وله شقيقان، ساهر وسيف، هو الأوسط بينهما.

كان نور عيني والده كما كان يصفه، وربما يعتقد البعض هذا الوصف مجازيا، لكن في حالة سهيل، لم يكن الأمر كذلك، فوالده كان ضريرا، وسهيل كان بمثابة نور بصره الذي يرشده في الظلام، حيث كان يرافقه في كل مكان، وخاصة حين ذهابه للصلاة في المسجد.

يتذكر الوالد كيف أنه حين أراد الذهاب إلى الجامع لصلاة الفجر بدون سهيل، ضل الطريق ولم يستطع الوصول للمسجد، فغلبته الدموع ورثا لحاله.

كان سهيل أنيقا يحب العطور، كما أنه كان حييا محبا لفعل الخير، متفوقا في دراسته، ذكيا بارعا في مجالات متعددة ومنها التعامل مع الحاسب الآلي، ولا يتأخر عن أي قاصد له طالب للمساعدة.

لم يتح لسهيل المشاركة في أيام الثورة الأولى، لأنه كان في ذلك الحين لا يزال طالبا في الثانوية العامة، وحزن حزن شديدا في ذلك الوقت، لكنه يحلم بتقدم بلده وتطورها، وظل حاضرا ومتابعا، حتى قام العسكر بانقلابه العسكري، فنزل إلى الشارع ليتظاهر ضده ويعتصم في ميدان رابعة.

كان كذلك ودودا دائم الابتسام، يضفي على أي مكان يتواجد فيه الفرح والبهجة، وهو مع ذلك كان حافظا لكتابه الله، وروح الدعابة التي يتمتع بها كانت حاضرة بأدب وتقدير حتى مع معلميه في المعهد الديني، الذين كانوا يتلقون مزاحه وخفة ظله بصدر رحب.

أخبر والدته، أنه ولعدم تسن المشاركة له في أيام الثورة الأولى، فإنه عازم على ألا يفوت أي من الأحداث اللاحقة، ولن يتردد في النزول، وهو الأمر الذي ترجمه بشكل عملي في حرصه على المشاركة في الفعاليات الرافضة للانقلاب العسكري، واعتصام رابعة العدوية.

كان لسهيل أقرباء يعملون في وزارة الداخلية، وشددوا في تحذيره من الذهاب لاعتصام ميدان رابعة، لأنهم على علم بأنه سيتم فضه في نهاية الأمر، لكنه لم يأبه لتلك التحذيرات، ولم تفت من عزيمته، بل زاده الأمر إصرارا على المداومة والاستمرار في الاعتصام.

أما والدته، فقد كانت تحث جميع أبنائها على المشاركة في الاعتصام، وتقول إنه حين كانوا يذهبون إلى رابعة، ويعودون، تجد أثر ذلك بشكل إيجابي على أخلاقهم وطباعهم، وهو ما كان يشجعها على أن تطلب منهم العودة للاعتصام، الذي كانت ترى فيه مدرسة تعلم الخير والإيثار والتواضع وحب الوطن والالتزام الديني.

ومع حبها الفطري لأبنائها وخوفها عليهم، إلا أن ذلك لم يتعارض عندها مع تحفيزهم للاستمرار في الاعتصام، وكانت تتساءل أحيانا حين يعودون بعد كل مشهد دموي، لماذا لم يصب أحدهم بأي أذى، فيرد سهيل، الله يصطفي الشهداء والمصابين، ونحن لسنا بعد أهلا لذلك.

كان موقف أم سهيل وإخوته مثار استغراب وتعجب لدى من يقف عليه، فهو في تقديرهم يتعارض مع ما هو متوقع من أي أم، لكنها كانت تبرر ذلك بإيمانها بالله، وقناعتها بأنه لابد من دفع ضريبة لتحرير الوطن من الظلم والفساد والاستبداد.

وعن مجريات ما حصل من أحداث ساعة الفض، تقول والدة سهيل، إن شقيقه الأكبر ساهر، كان في المنزل، وبمجرد توارد أنباء بدء عملية الفض، لم يتحمل البقاء، وقرر الذهاب إلى الميدان للاطمئنان على أخوته، وبعد معاناة تمكن من الدخول، ليخبره أصدقاؤه بأن سهيل قد أصيب، فيبدأ رحلة البحث عنه في أرجاء الميدان.

أصيب ساهر برصاصة في قدمه وخرطوش في ساقه، ونقل إلى المستشفى الميداني، ليجد قوات الانقلاب قد اقتحمته وأخبرت من فيه بأنه إن لم يخلوه سيحرقون من فيه الأحياء منهم والأموات، فاتصل بوالديه أخبرهم أنه أصيب برصاصه في قدمه وخرطوش في ساقه ولم يعثر على سهيل، ولكنه عثر على أخيه الأصغر سيف.

تواردت أنباء لدى ساهر أن شقيقه سهيل قد استشهد، فأخبر والديه بالأمر، وفي اليوم التالي ورغم إصابته، ظل ساهر يبحث عن شقيقه في المستشفيات ومشرحة زنهم لكن لم يجده، حتى أتى بعض أقاربه وجيرانه ليساعدوه في البحث، حتى عثروا عليه في مستشفى الصدر بمدينة نصر.

وحين وصل الخبر لوالديه، سجدا شكرا لله أن كتب لأحد أبنائهم الشهادة، ولم يكن التعرف على جثة سهيل بالأمر السهل، لأنها كانت ضمن الجثث المحروقة، وقد تساقط أجزاء منها بعد ترك الجثمان دون الاهتمام اللازم، ولم يتعرفوا عليه إلا من أسنانه وبنانه.

خرج التقرير الطبي من مستشفى مدينة نصر بأنه قتل بسبع رصاصات، واحدة في الرأس وأخرى في العنق، ثم 5 رصاصات في أجزاء مختلفة من الصدر والظهر، لكن مشرحة زينهم حاولت منع الأسرة من استلام الجثمان إلا بعد التوقيع على تقرير يقول أن سبب الوفاة حادث مروري أو انتحار.

رفض الوالد الأمر، وتمسك بما جاء في التقرير الصادر عن مستشفى مدينة نصر، فكتب في تقرير مشرحة زينهم “بسبب النيران الشديدة تعذر معرفة سبب الوفاة الحقيقي” فقبل والده بهذه الصيغة حتى يستطيع استلام جثمان ابنه ودفنه.

وأمام عشرات المصلين، أعلن والد سهيل نبأ استشهاد ابنه والعثور على جثمانه بعد التعرف عليها، وأنهم في انتظار الجثمان بعد انتهاء إجراءات الاستلام لدفنه، وقال “اللهم أني راض عنك فارض عني، هذا يا رب أقل شيء أقدمه لمصر”.

كان الوالد يتمنى أن يموت ابنه وهو معركة تحرير المسجد الأقصى، على يد العدو الحقيقي الاحتلال الصهيوني، وليس على يد إخوته من الجيش المصري.

ظل سهيل في ذاكرة أهلي وذويه وأبناء قريته، يستذكرون سيرته في مناسبات مختلفة، ويحيون ذكراه في أعوام لاحقة من خلال وقفات ومسيرات تنظم أمام منزله، كما أدى آخرون العمرة ووهبوا أجرها له.