“هستناكم بكرة في الميدان عشان نحتفل بيوم ميلادي” بهذا الرد، استقبل بطل قصتنا تهنئة أسرته ليلة الرابع عشر من أغسطس/آب 2013 الذي يوافق ذكرى ميلاده، على أمل أن يقضي معهم يوما مبهجا، إلا أن عيد الميلاد صادف أكبر مذبحة وقعت في العصر الحديث، كان هو أحد ضحاياها.
محمد فهمي صادق دردير (52 عاما) ولد في 14 أغسطس 1961 بمنطقة الورديان في محافظة الإسكندرية، وكان متزوجا ولديه 4 أبناء، ولدان وبنتان، ويعمل محاميا بالنقض.
كان محمد يملك مكتب محاماة، عرف بكونه مقصدا للمظلومين والمستضعفين في فترة ما قبل ثورة 25 يناير 2011 في عهد الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، وتعزز دور هذا المكتب وحضوره في دعم المظلومين بعد الثورة حتى لحظة مقتله في فض اعصام رابعة العدوية.
كان معروفا بأخلاقه الحسنة، مضربا للمثل فيها، ومن أبرز تلك الأخلاق، بره الشديد بوالديه، وفي أيامه الأخيرة، أخبر زوجته أنه “لم يسجد سجدة لله إلا ودعا فيها لوالديه”، ولا يخفى ما في ذلك من دلالة على مدى البر لديه وقدر والديه عنده، وكان كذلك حسن المعاشرة لإخوته ومحبوبا بينهم لما عرف عنه من خلق الإيثار وخدمة الجميع.
اتسم بالشجاعة والإقدام والالتزام والاحترام، وكان، حسبما تحكي ابنته أفنان، ذا فراسة وبعد نظر في الكثير من الأمور، يصدق حدسه في الأمور وتصدق توقعاته، وهو الأمر الذي جعله مصدر فخر واعتزاز لأفراد أسرته، سواء في حياته وحتى بعد مماته.
كان لصادق دور مشهود في فضح جرائم النظام السابق، حيث كان لا يخشى في سبيل قيامه بهذا الدور، بطش أو استهداف من قبله، وظهر هذا الدور في فضح التزوير الذي كان يقوم به الحزب الوطني المنحل بدائرة مينا البصل في الإسكندرية خلال انتخابات مجلس الشعب عام 2010.
شارك في ثورة 25 يناير من أول أيامها، واستمر حضوره في دعم الثورة وأهدافها في محطاتها المختلفة، وكان من أوائل من خرجوا بعد الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو/تموز 2013، لإعلان رفض الانقلاب، وشارك في اعتصام رابعة من بدايته.
شجاعته وإقدامه ظهرا كذلك خلال أيام الاعتصام، ومن ذلك ما يحكيه، ابنه محمود حين سمعت أصوات تبعها أنباء عن محاولة من قبل البلطجية لاقتحام الميدان والاعتداء على المعتصمين، فهب على الفور ودون أن يرتدي حذائه، مسرعا ناحية إحدى بوابات الاعتصام للمشاركة في التصدي للمعتدين.
من مواقفه المؤثرة خلال مشاركته بالاعتصام، موقف يحكيه أحد أصدقائه، وهو أنه حين كان يسير بين خيام الاعتصام قبل موعد الإفطار في رمضان، وجد المعتصمين بإحدى تلك الخيام يفطرون على قدر يسير وبسيط من الطعام، فسألهم عن الأمر، فكان الرد أنهم لم يأتوا للأكل وإنما للوقوف في وجه الظلم.
أدرك محمد صادق، أنهم لا يملكون المال الكافي لشراء القدر المناسب من الطعام، وشعر بضرورة معالجة الأمر، فسعى إلى جمع قدر من المال من المتيسرين، واشترى عجلين وأهداهم لأهل تلك الخيمة، وهو الأمر الذي استقبلوه بسعادة بالغة، فرح هو بها إلى حد البكاء، ثم تنحى بعيدا وسجد سجدة شكر لله أن من عليه بإدخال السرور على قلوبهم.
كان محمد صادق بشوشا متفائلا مقبلا على الحياة مع حرصه على الآخرة، وتوافق مع أسرته على أن يلحقوا به في ميدان رابعة يوم 14 أغسطس 2013، لمشاركته الاحتفال بذكرى ميلاده، وربما وجد في ذلك فرصة لتحفيز من قد يتكاسل من الأسرة للمشاركة في الاعتصام.
لكن الرياح، أتت بما لا تشتهي السفن، حيث استيقظ أفراد الأسرة، حسبما ذكرت ابنته، على أخبار بدء فض الاعتصام، فسارعت الأسرة التي لم تكن خرجت بعد من الإسكندرية للمشاركة في المسيرة الداعمة للمعتصمين، أمام مسجد القائد إبراهيم، والتي استنكرت ما يحدث من مذبحة في فض الاعتصام.
كان آخر اتصال بين محمد صادق وأسرته في الرابعة والنصف عصرا، ومن بعدها لم يعد يرد على اتصالاتهم، حتى عرفوا بنبأ استشهاده عند الساعة السابعة، ورغم عدم توقع حدوث شيء له، فإن الأسرة تلقت النبأ بنفوس راضية ثابتة، حسب ما قالت ابنته، التي أكدت أن الله أنزل السكينة عليهم في تلك اللحظات.
ولاحقا، علمت الأسرة بملابسات استشهاد محمد صادق، حيث أنه وبعد بدأ الفض، ذهب إلى طيبة مول للمساعدة في حمل الجرحى والمصابين، ليصاب برصاصة في قصبة رجله أدت إلى كسرها، وعندما سارع المعتصمون لحمله وإسعافه، طلب منهم تركه والذهاب لإسعاف شخص آخر أكثر احتياجا منه، وأخبرهم أنه سيزحف حتى يصل إلى الخيمة.
ومن حينها، انقطع الاتصال بمحمد صادق، وكان ذلك آخر موقف حكاه عنه أقرانه، وبعد محاولات حثيثة للتوصل إليه عبر الهاتف، ردت سيدة وأخبرتهم بمكان جثمانه، وطلبت الإسراع بأخذ الجثة قبل حرقها، وعندما ذهبوا إليه وجدوه مقتولا بخمس رصاصات وطعنة في القلب بالسكين الأمامي للرشاش، حسبما حكت زوجته، وعلى الفور قاموا بنقله إلى مسجد الإيمان حتى ذهب إليه أحد أقاربه وأخذ الجثمان.
لقيت الأسرة من التعنت ما لقيه غيرها في استخراج شهادة الوفاة وإثبات السبب الحقيقي لذلك، وفي نهاية الأمر كتب في شهادة الوفاة التي خرجت من الطب الشرعي “طلق ناري” ولم يكتبوا فيها عدد الرصاصات والطعنة التي في القلب.
من عباراته التي حفظت ونقلت عنه: “آن الأوان يا بلدنا يا عفية يا ولادة، إنك تفكي القيد وتحطمي الطوق، ولحظة المخاض دائماً عصيبة كلها دموع وآلم ودم، بعدها بيجي الوليد ويشق نور الفجر ظلمة الليل، وما أحلي الفرج من بعد ضيق الظلم والهم.