أحمد المناوي.. زيارة رابعة غيرت كل شيء

“نازل أعرف بنفسي اللي بيحصل في رابعة”.. من هنا كانت البداية، فبطل قصتنا الذي كان مثل قطاع ليس بالقليل من المصريين، بعيد عن المشهد وتفاصيله، أبى أن يستسلم لروايات إعلام الانقلاب، وحرص على الوقوف بنفسه على الحقائق، ليترك الأمر أثرا كبيرا في نفسه، ويُحدث تحولا كبير بكيانه.

أحمد محمد حسني المناوي (21 عاما)، من مواليد محافظة الإسكندرية، كان طالبا متفوقا في السنة الأخيرة في قسم هندسة الميكانيكا بالأكاديمية العربية في الإسكندرية، بعد حصوله على أعلى التقديرات في سنوات دراسته، كما أنه كان قد أنهى مشروع تخرجه، ويحده الأمل والطموح في حياة كلها إنتاج ونشاط.

لم يشارك أحمد في اعتصام رابعة من بدايته، كما أنه لم يكن ذاك الشاب الذي قد اتخذ موقفا سياسيا من الأحداث الجارية في بلده، إلا أن ذلك لم يكن يعني أنه كان فارغا أو تافها، ويعكس ذلك تفوقه وطموحه وأخلاقه وتدينه، ما دفعه إلى السعي لمعرفة ما يجري في اعتصام رابعة بعد أن كثرت الروايات والحكايات عن الواقع فيه.

التحق أحمد بالمعتصمين في الميدان مع أول أيام العيد، وقضى معهم من الأيام ما شكل لديه وعيا وقناعة أن هذه الفئة فريدة ومميزة، وبات ينقل صورة إيجابية عن المعتصمين لأهله وذويه، ويفند أي تهم ترددت في تلك الآونة عنهم، حتى قتل في أحداث مذبحة سموحة بمدينة الإسكندرية، والتي أعقبت فض رابعة بيومين.

في حديثها عن قدر الفقد الذي استشعرته بغياب أحمد، تقول الوالدة المكلومة، إنها بغيابه فقدت أقرب وأحب إنسان لها، كما فقدت الحب والحنان، فهو من كان يأخذ بيدها للصلاة، ولا يطيب له طعام أو شراب إلا معها، وكان ارتباطه بها ارتباطا وثيقا إلى أبعد حد.

عرف أحمد بالخلق الرفيع ويقظة الضمير، وتمحورت اهتماماته حول تحصيل العلم، والدفاع عن الإسلام، وكانت القيم المتعلقة بهذه الأمور تشكل جميع الدوافع السلوكية في حياته، وكان مواظبا على الصلاة وقراءة القرآن.

تستذكر والدته، كيف أنه بكى حين وقعت حادثة مقتل الجنود المصريين في رفح، وترحم عليهم كثيرا، ولم تتوقف صفة الرحمة لديه على الإنسان، فقد عرف برحمته بالحيوان كذلك، فإذا سمع مواء قطة في الشارع، أحضر لها الطعام حين يغلب على ظنه أنها جائعة، بل ربما جلبها معه لغرفته ليطعمها بينما هو يذاكر.

تتساءل الوالدة بعد سردها لذلك، هل يعقل أن يكون ابني وهو بهذه الصفات إرهابيا، وهل يكون جزاءه رصاصة الجرينوف؟

كان ذا همة في العبادة، نشيطا في العمل المجتمعي، يظهر ذلك بشكل واضح في شهر رمضان، وكان يحصر على أن يأخذ بيد والدته لصلاة التراويح والتهجد، يظهر عليه التأثر بالعبادة التي يؤديها كما أنه كان كثير الدعاء بأن يمن الله عليه بنيل الشهادة

كان مسالما، لكن ذلك لا يثنيه عن الوقوف مع الحق، قوي الشخصية، يغلب المصلحة العامة على مصالحه الخاصة، ولم ينشغل عن الشأن العام بأهدافه وطموحه الخاص الذي كان الطريق معبدا له، حيث الانتساب لكلية مرموقة والتفوق الدراسي، وتوفر جميع معطيات المستقبل الواعد.

يحكي والده يحكي عن تعلقه باعتصام رابعة، بعد الالتحاق به في عيد الفطر، وانبهاره بأجوائه وكثرة حكايته عما رآه فيه من ألفة وحب وتعاون بين المشاركين فيه، وما لمسه من صبر وثبات المعتصمين السلميين على مطالبهم، ورأى فيهم سمات المؤمنين الأوائل، والحجاج وهو واقفون على جبل عرفات.

شكلت هذه الزيارة السريعة لاعتصام رابعة، نقلة نوعية في تصورات أحمد ونظرته للأمور، فهو حسب والدته لم يكن من طبيعته المشاركة في المظاهرات، وكان يعبر عن موقفه الغاضب مما يحدث في البلاد عبر الكتابة فقط.

إلا أن فض اعتصام رابعة، وما شهده الجميع من بشاعة في المشهد نقلت عبر شاشات التلفاز، اتخذ قرارا بالمشاركة في المظاهرات التي خرجت تنديدا بالمذبحة في الإسكندرية، ليلقى ما لقيه أهل الميدان من استهداف بالغاز المسيل للدموع، ورصاص قوات الجيش والشرطة.

يحكي شقيقه عن آخر لقاء جمعهما في اليوم السابق لاستشهاده، حيث طلب منه أن يركز في دراسته ومستقبله، فرد عليه أحمد، أنه حين يسأل يوم القيامة عما فعله تجاه ما يحدث حوله، ولماذا لم يقف مع الحق في وجه الباطل، فكيف سيرد، فصمت ولم يجد إجابة، ليؤكد له أحمد أنه لن يقف مكتوف اليدين.

في يوم الجمعة السادس عشر من أغسطس/آب 2013، تداعى أهالي الإسكندرية إلى التجمع بعد صلاة الجمعة في مدافن المنارة لتشييع عدد من ضحايا اعتصام رابعة، وبعد الانتهاء، قرر المعتصمون صلاة العصر في مسجد علي بن أبي طالب بمنطقة سموحة والانطلاق من جديد في المظاهرات.

قابلت قوات الجيش والشرطة تلك المظاهرات بالرصاص الحي “الجرينوف” حيث كانت الطلقة تخترق الجسم وتخرج من الجهة الأخرى، وسقط العديد من القتلى من بينهم أحمد المناوي، الذي أصيب برصاصة في صدره، فنقل إلى المستشفى الميري ولم يتلق الرعاية المناسبة ليلفظ أنفاسه الأخيرة مساء ذات اليوم.

تسرب القلق بعد التأخر والتعنت في تسليم جثمان أحمد وإصدار شهادة الوفاة، خاصة مع إصرار ابن عمته المحامي على أن تتضمن سبب الوفاة الحقيقي دون تزيف أو تزوير، لكن في نهاية الأمر اعتمد في شهادة الوفاة أن سببها “طلق ناري في الصدر وقطع في الجبين”.

وبينما تقلب أسرته في أوراقه ومقتنياته، وجدوا أوراقا كتب فيها وهو في الخامسة عشر من عمره، “متى يا إلهي يظهر الحق، متى يا رب سينتصر الإسلام، متى يا رسولنا تسقنا من حوضك، متى يا رب تدخل الشهداء جنتك، متى يا إلهي تحببنا في بعضنا..”.