لم يكن منتميا لحزب أو جماعة، لكنه كان مجتهدا ذا هدف وطموح، ورغبة ملحة في أن يرى وطنه أفضل، ورغم أنه كانت أمامه فرصة لعيش غريد خارج مصر، إلا أنه فضل البقاء فيها حبا ورغبة في أن يكون لبنة في صلاحها.
أحمد عبده قاسم (20 عاما) من مدينة الإسكندرية، كان طالبا في الفرقة الثانية بكلية الهندسة في الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا بمحافظة الإسكندرية، من أسرة محبة لبعضها، كان هو الأكبر بين أشقائه، عمرو وفرح، وقضى شهيا برصاصة في الرأس في مذبحة سيدي جابر، يوم الجمعة 5 يوليو/تموز 2013، خلال مشاركته في مسيرات رافضة للانقلاب العسكري بعد يومين من إعلانه.
في تأثر شديد، وبكلمات تحاملت لإخراجها وهي تغالب دموعها، تتحدث السيدة فاطمة، والدة أحمد، عن سمات وصفات فلذة كبدها الذي فجعت فيه، حيث كان بارا مطيعا، حسن الخلق، متفوقا في دراسته بمختلف مراحلها، كما كان متميزا بالتزامه الأخلاقي والديني، محبوبا بين الناس محبا لهم.
فيما تؤكد شقيقته الصغرى فرح، بأنه لم يكن مجرد أخ أكبر وحسب، بل كان حانونا طيبا، يساعدها في دراستها، ولا يهدأ له بالا حتى يفهما ما أشكل عليها، كما أنه كان طيبا لا يؤذي أحدا، ويظهر أثره بشكل حقيقي بعد فقده وغيابه.
بينما يرى شقيقه عمرو، أنه كان أفضلهم، كونه الأبر بوالديه، وصاحب العلاقة المميزة بأشقائه، لافتا في هذا السياق إلى أن علاقتهما كانت تجمع بين الأخوة الصادقة والصداقة القوية.
وإلى جانب دماثة خلقه ورقته وسهولته ولينه مع أفراد أسرته ومن في محيطه، كان أحمد صاحب مواقف قوية في رفض الظلم، ومن ثم كان حريصا على المشاركة في الفعاليات الرافضة للانقلاب، مصرا على أن يقول كلمته كمواطن مصري يرى أن حقه يهدر.
لم يكن أحمد يرى سبيلا لإظهار الحق والدفاع عنه، إلا عبر المشاركة الإيجابية في الفعاليات السلمية، إلا أنه لم يكن ليخطر على باله أن يقابل ذلك بالرصاص الحي المميت والذي كان له نصيب منه.
كانت مكانته مميزة في أسرته الصغيرة، وامتدت تلك المكانة لتشمل أفراد عائلته الكبيرة، وفي ذلك يقول ابن خالته صهيب عبد الكريم، إن أحمد كان محبوبا من الجميع، يترك أثرا في أي تجمع يشارك فيه، سواء كان ذلك التجمع عائليا أو دراسيا، أو في أي مسار كان.
عاش أحمد سنوات ليست بالقليلة من عمره خارج مصر، ولم يكن له أي انتماء سياسي، إلا أنه لم يكن يرضى الظلم، فحرص على المشاركة مع الجموع الغفيرة التي هبت لرفض سرقة الثورة من قبل العسكر، لم تكن قضيته الرئيس الراحل محمد مرسي كشخص، بقدر موقفه الواضح ضد الظلم.
تحكي الوالدة المكلومة عن تفاصيل أيامه الأخيرة، حيث تملكها الحزن والضيق لما آلت إليه أحوال مصر، بعد سماعها بيان الانقلاب العسكري، ورأت ضرورة النزول والمشاركة في المسيرات السلمية الرافضة لهذا الانقلاب.
وصبيحة يوم الجمعة الذي جاء بعد الانقلاب بيومين، أيقظت الأم أولادها للصلاة والمشاركة في المظاهرات بعدها، فكان أحمد أسرع المتجاوبين، وقبل النزول للصلاة، قالت له بتلقائية “نتقابل في الجنة يا أحمد”، وتركتهم ونزلت وهي لا تدري لماذا أجرى الله على لسانها هذا القول.
يلتقط صهيب خيط الحديث، ويتابع حاكيا عن تحركه مع أحمد، حيث شاركوا في مسيرة رافضة للانقلاب بعد صلاة الجمعة، وحين جاء وقت صلاة العصر، سمعوا وصية أحد المشاركين يحثهم على السجود، فربما تكون آخر عهدهم بالحياة، وهنا يحكي صهيب كيف أن أحمد أطال السجود وهو في الشارع، حتى طلب منه النهوض للحاق بالمسيرة.
كانت المسيرة حاشدة، لا تكاد ترى بدايتها أو نهايتها من كثرة العدد، وعندما وصل المشاركون فيها إلى منطقة سيدي جابر، خرج عليهم البلطجية من الشوارع الجانبية بالسكاكين والطوب والعصي، وبدأوا بالهجوم عليهم والتعرض لهم وسبابهم.
في هذه الأثناء، تراجع أحمد إلى الخلف قليلا، فيما بادر شقيقه عمرو وابن خالته صهيب بالتقدم والمواجهة، فكان يطلب منهم الرجوع ويحاول إثناءهم عن المواجهة والصدام، ويقول لهم، هدفها التعبير عن رأينا بسلمية، وعدم الدخول في صراعات رغم الاعتداء والاستفزاز، وكان حريصا على أن يستمر في الهتاف خلال المظاهرة “سلمية سلمية”.
في تلك الأثناء، وبينما المتظاهرون مشغولون بصد اعتداء البلطجية، شاهدوا مدرعات الجيش تقف في صف البلطجية وتطلق قنابل الغاز على المتظاهرين، فطلب صهيب من ولدي خالته بترديد الشهادة حتى إذا تعرض أحد منهم بسوء يصبح شهيدا.
ومع كثافة الضرب، تفرقوا عن بعضهم، ثم حاولوا الاتصال ببعضهم لمعاودة الاجتماع، وبالفعل، تجمع صهيب وعمرو، لكنهم لم يجدوا أحمدا ولم يرد على اتصالاتهم المتكررة.
وبينما هم كذلك، وردهم اتصال من أحد الأشخاص الذين كانوا بجوار أحمد، يخبرهم بأنه أصيب بخرطوش في رأسه، وهو وحمل إلى مستشفى مصطفى كامل للقوات المسلحة.
تستأنف الوالدة سرد مجريات الأحداث، وتقول، إنه فور ورود اتصال من هاتف أحمد، يعلمهم فيه المتصل أن أحمد في مستشفى القوات المسلحة ومصاب، أسرعت إلى المستشفى لتجده في العناية المركزة وقد قتل برصاصة في رأسه.
يحكي صهيب أنهم عندما فتحوا محفظته وجدوا فيها صورة صغيرة لعلم مصر، وهو ما يعكس اعتزازه ببلده، وفخره بها.
نيل أحمد للشهادة، يظل هو السلوى المصبِّرة لوالدته التي تتذكره دائما وتشعر بألم الفراق، فهي لم تحزن لأنها من شحذت همته للمشاركة في المظاهرات الرافضة للانقلاب العسكري، كما لم تندم لنصرتها للحق.