مصطفى الدوح.. وسقطت كاميرا طالب الهندسة

في حال احترف أحدهم مهنة الصحافة أو التصوير الصحفي، وجاءته رصاصة غدر وهو يؤدي عمله، فهو في عرف الناس “شهيد المهنة” كما الحال مع أحمد عاصم، لكن أن يكون طالب هندسة طموح، شغفه الكاميرا وهوايته التصوير، وهدفه رصد تجاوزات وجرائم سلطة الانقلاب وتوثيقها، وإن جلب الأمر منيته، فأنت في حضرة بطل قصتنا.

مصطفى محمود الدوح (25 عاما) ولد 24 يناير 1988، بقرية كرداسة في محافظة الجيزة، وكان طالبا بالفرقة الرابعة في كلية الهندسة قسم الميكانيكا، وله 3 أشقاء و5 شقيقات.

كان موعد مصطفى الدوح مع الشهادة وهو يصور اعتداءات قوات الانقلاب العسكري على المتظاهرين بشارع السودان جوار محطة مترو البحوث بمحافظة الجيزة وذلك في الذكرى الأولى لثورة 25 يناير 2013.

وعلى شدة وقع نبأ مقتله على أهله وذويه، إلا أنه كان محطة رئيسية ورسالة قوية لبعضهم، فوالده محمود سعيد، يقول إن استشهاد مصطفى مثل له ولادة أخرى بعد ولادته الحقيقية.

رزق الله والد مصطفى العديد من الأولاد، إلا أنه كان أحبهم إلى قلبه، لما اتسم به من صفات حسنة، في مقدمتها لين الجانب مع أفراد العائلة، والسيرة الطيبة بين الناس، الخلق القويم الذي أسر به أفئدة جميع من عرفوه، وتمنى الوالد المكلوم أن يسامحه مصطفى عن أي تقصير في حقه.

كان مصطفى دؤوبا مثابرا مبادرا من أجل تحقيق أحلامه وآماله التي اتسعت وسمت بعد تعرفه على صحب صالح شاركهم حلم النهضة للوطن، والأمل في أن يتطهر من الفساد والمحسوبية والظلم والاستبداد.

وفي سبيل ذلك، كان ذا همة عالية، انعكست على مختلف فصول حياته، ومن ذلك ما تحكيه إحدى شقيقاته عن حرصه على أداء صلاة الفجر جماعة في المسجد، حيث هداه فكره أن يربط كوب ماء فوق سريره الذي كان أسفل النافذة، ويترك طرف الحبل الآخر متدليا من النافذة، ليشده من يمر من أصحابه فينسكب الماء على وجهه ويستيقظ للصلاة.

كان بارا بوالديه، سهلا في معاملتهما، فمع كثرة الولد، لم يكن مصطفى مصدر إرهاق ولا تعب، كما تحكي والدته عايدة ربيع سواء في مرحلة الطفولة أو الشباب، وكان إضافة إلى ذلك محبوبا من أقاربه وجميع جيرانه.

بذل كل الجهد لتحقيق هدفه، فرغم أنه كان يرغب في الالتحاق بكلية الفنون التطبيقية أو معهد الخط لحبه الشديد للخط العربي، إلا أنه عمل بنصيحة والده بأن يسعى لهذا الهدف كهواية ويختار تخصصا آخر يحقق به ذاته، فاختار مجال الهندسة وسعى لإجراء معادلة تتيح له الالتحاق بكليتها بعد حصوله على دبلوم صناعي، ولم ييأس بعد تعثر هذا السعي في محاولته الأولى.

عاود مصطفى المحاولة في عامه التالي ونجح، ويأسف والده وهو يحكي قصة إصراره على الأمر، أن ابنه مصطفى شعر بتشككه في قدرته على تحقيق هذا الهدف، خاصة وأن تلك السنة صادفت ظروفا استثنائية مر بها بيتهم، كان من المتوقع أن تحول دون قدرة مصطفى على تحقيق درجة المعادلة المطلوبة.

كان لمصطفى رصيد كبير من الهوايات والمهارات، كإتقانه الكتابة بالخط العربي، والتمثيل، والتصوير، والصوت العذب في قراءة القرآن، كما كان شخصية مرحة يحب الضحك والفكاهة.

عن شغفه بالتصوير، تقول والدته، إنه حين كانت ترى اهتمامه الشديد بالتصوير تذكره بأنه في الأساس مهندس وليس مصور، فيرد عليها بأن إيصال صوت الناس وكشف الحقيقة ليس له علاقة بمهنة محددة، وتشير في هذا السياق إلى أنه كان ينزل لتصوير المسيرات والمظاهرات.

قضى أغلب فترة اعتصام رابعة بالميدان مع والده، وكانت والدته حين تشتاق إليه تذهب إلى مكانه الذي يعتصم به مع والده في خيمة معتصمي كرداسة، وفي بعض الأحيان تشاركه الإفطار في رمضان.

وخلال الفض، ومع سقوط عدد من رفقائه في الخيمة ضحايا برصاص قوات الجيش والشرطة، كان يدعو الله كثيرا “اللهم شهادة لا اعتقال”.

يحكي أحد أصدقائه أن مصطفى حين صرح له بنيته النزول في 25 يناير 2014 بالكاميرا للتصوير، حاول إثناءه من النزول بالكاميرا، خوفا عليه، فقال له ما فائدة نزولي دونها، فما كان منه إلا أن أوصاه بالاحتراس، وودعه وهو يشعر بخوف أن يصيبه مكروه.

فيما تبدأ والدته بسرد تفاصيل يوم استشهاده، والذي بدأ بطلبها منه تجديد نيته، ورفضه تناول الإفطار قبل النزول، وشعورها بضيق في الصدر بعد نزوله، فيما يكمل الوالد المشهد، فيقول إنه نزل مع شقيقه أسامة والذي كانت تلك أول مشاركة له في المظاهرات.

لم يتمكن مصطفى وشقيقه من الوصول إلى نقطة التجمع عند مسجد مصطفى محمود بالمهندسين، بسبب تفريق قوات الأمن للمتظاهرين، واستهدافهم بالرصاص، فهربا في شوارع سوريا والسودان ومنطقة أرض اللواء حتى وصلوا إلى منطقة بولاق الدكرور.

وهناك علم الوالد من أحد أصدقائه أن مصطفى معهم في مسيرة عند محطة مترو البحوث٬ فحاول الاتصال به للاطمئنان عليه، لكنه لم يرد، وبعد عدد من المحاولات، رد أحد أصدقائه وأخبره أن مصطفى استشهد بعد إصابته بطلق ناري وهو يصور اعتداءات قوات الجيش والشرطة وهي على المتظاهرين.

سعى الوالد الصابر لأخذ جثمان ابنه، وبعد محاولات من قبل البلطجية وقوات الانقلاب لأخذ الجثمان، نجح الوالد في الوصول إلى مكان الجثمان ونقله إلى كرداسة، وكان في استقباله أعداد غفيرة من أهالي القرية وهم يهتفون ويكبرون.

رفض الأب دفن الجثمان دون تقرير طبي وشهادة وفاة، وذهب إلى قسم الدقي لعمل محضر بالواقعة وهو وفاة بطلق ناري في الرأس أدت إلى كسر الجمجمة وتهتك في المخ ورصاصة أخرى في الفخذ، واستطاع بالفعل استخراج التقرير الطبي من مشرحة زينهم وشهادة الوفاة.

ودعت قرية كرداسة مصطفى الدوح في مشهد مهيب مختلط بمشاعر الفرح لحصول ابن قريتهم على الشهادة، وغضب من استهداف قوات الانقلاب العسكري لشاب أعزل بسبب حمله كاميرا توثق جرائم رأوا أنها لن تسقط بالتقادم مهما طال الزمن.