“قد يقبلُ الله نصفَ العمل لكنهُ لا يقبلُ نصف النية” كلمات كان يُرددها بطل قصتنا ويحرص على تمثلها، حتى جاءه الأجل في 5 يوليو/تموز 2013، حيثُ كان على موعدٍ مع رصاصةٍ في الرأس، خلال أحداثِ مجزرةِ سيدي جابر أمام قيادة المنطقة الشمالية العسكرية بالإسكندرية.
مصطفى جابر إسماعيل (26 عاما) من سكان منطقة سيدي بشر بمدينة الإسكندرية، وتخرج من كلية التجارة بجامعة المدينة، وكان يحب مجاله ويسعى للتميز فيه، وفي سبيل ذلك حاز العديد من الكورسات المهمة، وفي مقدمتها شهادة المحاسب الإداري المعتمد (CMA)، كما أنه كان رئيس المجلس الاقتصادي في نموذج محاكاة منظمة التعاون الإسلامي (مويك) عام 2013.
نبوغه في المجال الاقتصادي كان ملموسا لدى زملائه ومعارفه وشركائه في التخصص، حتى تنبأ له بعضهم بأن ذلك النبوغ سيوصله لأن يكون وزيرا للاقتصاد يوما، وكان بدوره يحلم أن يكون له دور في نهضة أمته وبلده في هذا الجانب، وأن يساعد العامة في فهم الاقتصاد وكيفية التعامل معه.
وفي تأثر لا تكاد تتمالك معه نفسها، تصفه عمته هناء إسماعيل، والتي كان يراعيها في سنواته الأخيرة، بالأدب والأخلاق الرفيعة والاحترام، وتقول “مصطفى ليس منه اثنين”، ثم تسرد كيف أنه كان يسأل عنها في كل وقت، ويساعدها في شؤون منزلها.
- صاحبُ الهمة
في الحديث عن همة مصطفى، تقول هدير إحدى المُشاركات في برنامج مويك، إنه كان يفكر في كيفية النهوض بالاقتصاد بمصر والعالم على أسس وركيزة الاقتصاد الإسلامي، وتطهيره من الربا المحرم.
فيما يضيف صديقه محمود رضا، بأن مصطفى كان يُواجهه الكثير من التحديات والعوائق في حياته، لكنه كان يتمتع بالابتسام الدائم والسعادة والثقة في موعود الله ونصره، ويؤكد أنه كان يصرف من ماله على الشهادات التي حصل عليها، بل ويساعد الاخرين بكل حب دون مُقابل.
كان مصطفى يجود بما يعرف من علم على غيره دون حساب، وهو في ذلك يرى أنه إذا كانت زكاة المال بذل جزء منه، فزكاة العلم بذله كله، ومن ذلك ما تذكره والدته السيدة منى، من قيام ابنها بإعطاء دورات في اللغة الإنجليزية للضباط عندما كان مجندا في الجيش، ولذا كان يحظى باحترام الجميع وتقديره.
كان مصطفى يحرص على الوقت، ولذا كان قليل الكلام، حريصا على العمل، يسعى بجد لبلوغ أحلامه، وتحقيق ما يأمل ويفكر فيه، حسبما أضاف صديقه محمود رضا في تعداد مناقبه، كما تميز كذلك بالصبر والجلد والثبات وقوة الحجة والاقناع، حسبما ذكر صديقه محمد شادي.
وبطبيعة الحال، فحبه للعلم استلزم معه حب القراءة والاطلاع، ولأجل ذلك كان ينفق الكثير من المال على شراء الكتب، وعندما كان يذكره البعض بضرورة أن يوفر المال لتحقيق حلم الزواج الذي يراوده كغيره من الشباب، كان يقول، إنهُ يبحثُ عن فتاةٍ تشاركه أحلامه، وتحبُ الشهادة والاستشهاد.
يقول أحد أصدقائه المقربين، لموقع “قتل في مصر”، إنه كثيرا ما كان يرى في يد مصطفى كُتبا تتحدثُ عن الجنةِ ووصفها وعندما كان يسأله عن سبب كثرة قراءته لتلك الكتب، كان يقول “كيف لا اقرأ عن المكان الذي سوف استقرُ فيه بعد الممات إن شاء الله”.
- الرصاصة الغادرة
وعن تفاصيل يوم الاستشهاد يقول صديقه محمد شادي إن مصطفى بعد الانقلاب وأثناء سيرهم في مسيرة لرفض الانقلاب على كورنيش البحر، كان يُحدثه عن فكرته في تأسيس مشروع لإعداد كوادر جديدة، تكون رائدة في مجالاتهم المختلفة حتى يتم تفادى مستقبلا ما وقعت فيه مؤسسة الرئاسة من أخطاء.
وقبل النزول يوم الجمعة 5 يوليو/تموز 2013 ناشدته عمته بالجلوس لكنه قال لها إن رائحة دماء سهيل عمار لا زالت في أنفه.
يحكي صديقه محمد شادي والذي كان معه قبل الاستشهاد، كيف كانت والدته تحاول إقناعه بالرجوع للبيت، وكيف كان يرد عليها بأنه صاحب قضية حق وأنه لم يخرج إلا لله، ويقول لها ما المشكلة إذا مات في سبيل الحق، وكانت هذه آخر كلماته مع والدته.
بينما تحكي والدته مني فتقول إنهم في يوم الجمعة 7 يوليو 2013 حاولوا التواصل مع مصطفى ولكن هاتفه لم يكن متاح، فسألوا أصدقاءه عنه فلم يجدوا جوابا، فذهبوا للبحث عنهُ في المستشفيات وأقسام الشرطة حتى أخبرهم أحد أصدقائه أنه تُوفي وهو في مستشفى القوات المسلحة.
تتابع الأم المكلومة، في وصف معاناتهم حينها، حيث رفضت المستشفى دخوله عندما علمت أنه قتل في أحداث مجزرة سيدي جابر، وتعاملت معهم بتعنت كبير، لافتة إلى أنه كتب في خانة سبب الوفاة بتقرير مصلحةِ الطب الشرعي “جار البحث”.
وفي هذا الشأن تضيف عمته هناء بأن مصطفى مكثَ في مشرحة كوم الدكة يومين، لأن طبيب المشرحة لا يُريد أن يكتب أن الجيش هو الذي ضربه، وأصر على أنه إذا أراد أهله استلام جثمانه ودفنه أن يكتب في التقرير الوفاة “جار البحث”.
شُيعت جنازة مصطفى يوم الأحد 7 يوليو 2013 وسط حشد كبير من أقاربه وأحبابه وأصدقائه وهم يدعون له بالرحمة ويسألوا الله ان يكتب له أجر الشهادة في سبيله.
من كلمات مصطفى: “تمرُ علينا لحظات نكون فيها في قمة الضُر والألم، تتسع بداخلنا الجروح وتتعمق ونظن ساعتها بأن كياننا قد انشق وأن ذواتنا قد انفلقت وأنا ما عدنا صالحين للحياة.. إن الله سبحانه وتعالى بعظيم رحمانيته ما كان يحرمنا إلا ليعطينا وما كان يبتلينا إلا ليقوينا.. فمن زيت الألم سنضئ طريق نجاحات لا تنتهي.. وبعمق جراحاتنا سنضرب في الأرض جذور عزتنا”.
لم تكن هذه هي آخر آلام هذه العائلة المَكلومة، فبعد مصطفى بشهر وأيام استشهد أخوه الأصغر محمود جابر يوم 16 من اغسطس عام 2013 في مجزرة سموحة بالإسكندرية.