محمود السنهوتي.. أنار القرية ورحل
أثر عظيم في النفوس، ذاك الذي يتركه فقد من اعتاد الناس حضوره الدائم عند أي احتياج، خاصة في أداء خدمات نوعية تعتمد على إتقان مهنة وحرفة، الأصل أنها مصدر رزقه، لكنه جعلها مصدر لمثوبة آجلة عند الله، وهو ما كان عليه حال بطل قصتنا.
محمود فتحي علي السنهوتي (23 سنة) ولد في الأول من أبريل/نيسان 1990 بقرية عرب جهينة، في مركز شبين القناطر التابع لمحافظة القليوبية، وهو من أسرة مكونة من 6 أفراد، والدين و3 أشقاء.
كان طالبا في أكاديمية طيبة للهندسة، مجتهدا متفوقا في دراسته، متميزا في مادته العلمية، طموحا، يسعى لتحقيق حلمه بأن يكون مهندسا بارعا، كما كان خاطبا يحلم بعيش الزوجية وتكوين أسرة صالحة تكون لبنة طيبة في مجتمعه.
وإلى جانب دراسته، كان محمود يحترف مهنة الكهرباء، حيث كان كهربائيا حاذقا، متقنا لعمله، له فيها باع كبير من عمل الخير وخدمة الآخرين، تظهر بعض جوانبها ضمن قصته التي نسردها.
عرف محمود بأخلاقه العالية وحبه لفعل الخيرات، وسعيه في خدمة الآخرين، لا يتأخر عن طالب أو قاصد إياه في فرح أو حزن، وكان كذلك محبا للعلم وأهله، مكبا على مجالسهم، من أهل المساجد وروادها المعروفين.
وضمن ما عرف من خلق رفيع، تميز محمود بطيبة قلبه، وحبه للأطفال والأيتام ومشاركته الدائمة في أنشطة متعلقة بهم، ومن ذلك أنه قبل مقتله بشهور بسيطة، وخلال مشاركته في الترتيب لنشاط في يوم اليتيم بالقرية، كان صامتا بينما الجميع يتكلم.
وحين استفهم أحد الحضور عن سبب صمته، قال أفكر في عمل يغلب على ظني أنه سيدخل الفرح قلوب الأيتام، وبالفعل، خلص إلى أن يكون ضمن المشاركين في لبس عرائس الحفل، وشارك في هيئة دب، وأدخل بهجة كبيرة على قلوب الأطفال.
كان محمود دائم السعي لقضاء حوائج الناس، ومن ذلك استغلال مهنته في الكهرباء، حيث يحكي صديقه سعيد صلاح، والذي كان يتعلم منه الحرفة، أنه في أحيان كثيرة وحين يستشعر ضيقا في معيشة من يعمل لديه، لا يقبل أن يأخذ أجرة عمله، بل في بعض الأحيان يشتري بنفسه أغراض الكهرباء ولا يأخذ ثمنها.
يقول شقيقه أحمد، إنه كان من الملبين الأوائل عند أي دعوة وأي عمل خير، وشارك في ترميم أكثر من 20 مدرسة، وكان من أكثر من خدم أهل قريته ولم يتأخر على أحد يقصده مهما كان.
كان يمتثل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته” ومن ذلك أنه برغم حرصه الشديد على المشاركة في أيام اعتصام رابعة العدوية كاملة، إلا أنه قطع ذلك قبل الفض بـ 3 أيام وعاد لقريته للمشاركة مع أولاد عمته في تجهيز بيت لهم.
وحين سمع بأن فض الميادين قد بدأ، سارع في صبيحة الرابع عشر من أغسطس/آب 2013 والتحق بميدان رابعة، والتحم بصفوف المعتصمين فيه حتى أصابته رصاصة الغدر، وسقط شهيدا ضمن المئات من ضحايا هذه المذبحة الكبيرة.
وحسب أسرته وأصدقائه، فقد أصابته 3 رصاصات، إحداها في الرأس والثانية في الصدر، والأخيرة في القدم، وبعد مقتله حمله عدد من المعتصمين إلى مسجد الإيمان، حيث جاء والده، واستلم جثمانه، ورفض الطب الشرعي أن يثبت إصابته إلا برصاصة واحدة.
كان محمود مشاركا وبقوة في معظم أنشطة العمل الخدمية، وشارك في حملة “معا نبني مصر” التي أطلقها حزب الحرية والعدالة، لإصلاح الشوارع وترميم المدارس وغيرها من الفعاليات.
وإلى جانب ذلك، كان محمود ورعا يخاف الوقوع في الحرام، ومن ذلك ما حكاه أحمد صلاح أحد أقربائه، عن تورعه الشديد حين طلب منه أن يركب له مصباحا كبيرا في الشارع أمام منزله، فقال له محمود، إن ذلك يعد سرقة من المال العام.
وحين جادله قريبه أحمد صلاح، وأخبره أن الفائدة ستعم كل من يمر في الشارع، وافق محمود على شرط أن يتحمل المسؤولية أمام الله عن الأمر.
لا يشعر الحاج فتحي السنهوتي والد محمود بالندم على دعمه المستمر لمشاركة ولده في اعتصام رابعة، ومساهمته في ذلك بتوفير المال له ولمن معه، وإن كان قلبه محروقا على فراق ابنه، مليئا بالغضب على من قاتليه هو ورفقائه من المعتصمين.
ويؤكد أن ولده ومعتصمي رابعة والنهضة، وقفوا وقفتهم لتحرير بلادهم من الظلم في سلمية وبالطرق الشرعية، مشددا في حرقه على أنه لن يتنازل عن حق ولديه وسيظل في الشارع يسلك كل مسار حتى عودة ذلك الحق.
يعود الحاج فتحي ويقول في أسى وحزن، “ولدي كان خيره على البلد كلها.. يدخل الكهرباء للفقراء دون مقابل، وكذلك للمساجد والمدارس والشوارع”، مؤكدا مضيه على ذات الطريق حتى تحقيق هدفه الذي مات لأجله.
فيما تقول الوالدة المكلومة، الحاجة وفاء، إن ابنها محمود كان مع تفوقه الدراسي مشاركا في كل محطات ثورة 25 يناير منذ اندلاعها، وكان في بعض الأحيان يخرج على اعتبار أنه ذاهب لدراسته، لكنه كان يلتحق بالثوار في ميدان التحرير.
تضيف بأنها كان يتملكها إحساس قوي بأنه سيموت شهيدا، ولم يكن في يدها أن تمنعه عن ما يحب، رغم ما كانت تعيشه من خوف وألم، وكانت تدعو له كثيرا وتقول “استودعتك عند من لا تضيع لديه الودائع”.
أصيب محمود في الحرس الجمهوري قبل الفض بأيام، ومع ذلك حرص على ألا تعلم والدته، التي تقول إنها علمت بالأمر بعد استشهاده، مؤكدة أنها فخورة به ويكفيها في هذه الدنيا أنها والدة الشهيد محمود السنهوتي.
تستذكر الوالدة، حين مشاركته في تجهيز منزل لأولاد عمته قبل وفاته بأيام قليلة، حين كاد أن يسقط أثناء عمله فقال له أحد أبناء عمته مازحا، “انتبه لحسن تقع وتموت” فرد بشكل تلقائي، “لا أنا مش هموت هنا.. أنا هموت هناك” يقصد بذلك ميدان رابعة.
كانت جنازة محمود ليلية مهيبة، شارك في حشود كبيرة، وظل في خاطر أهل القرية يتذكرونه بالخير، ويعلنون عند كل مرور أمام منزله في مسيرات لاحقة وفاءهم لدمه وإصرارهم على المضي قدما على طريقه حتى عودة حقه وحق باقي من سقطوا في سبيل الحرية.