ناصر حنفي.. مصلح ذات البين
لربما يهتز مؤيدوا الانقلاب العسكري لموت أحد رافضيه ممن عرفوا أخلاقه، ويبدون حزنا وأسفا لمقتله على يد العسكر، لكن أن يحدث ذلك أثرا في موقفهم فيتغير، فهذا من النادر الذي يتطلب علاقة خاصة بالقتيل ومنهم بطل قصتنا الذي بكاه المخالف قبل المؤيد.
ناصر حنفي سيد أحمد (46 عاما) ولد في 21 نوفمبر/تشرين ثاني 1967 وهو ابن قرية الإخصاص بمركز الصف في محافظة الجيزة، وهو أب لأربعة من الأبناء، وأخ لأربعة من الأشقاء هو أصغرهم.
كان ناصر آسرا في طبعه، أخاذا في عشرته، محبا لغيره، ساع بالمعروف وإصلاح ذات البين، حتى عرف بين أهالي بلدته بهذا الخلق، فبات قريبا من نفوس الجميع وإن اختلفت الأفكار والمشارب.
أحب ناصر أعمال الخير، والسعي في خدمة الآخرين، وكان يقدم في ذلك النموذج المثالي سواء في عائلته، أو بين جيرانه وأحبابه، بل حتى مع عموم الناس لا يفرق في ذلك بين موافق أو مخالف في الفكر والموقف السياسي.
كان حافظا لكتاب الله مجودا له عذب الصوت، يترك أثرا فيمن يسمعه، كما كان خطيبا مفوها، يجبر من يستمعون له على الإنصات التام، لقوة منطقه وحسن عرضه لفكرته، وكثيرا ما يظهر أثر ذلك بدموع تذرفها عيون السامعين.
عاطفته تجاه الآخرين وحبه الخير لهم، امتد أثرها لتشمل الأطفال الذين أحبوه لمعاملته الخاصة بهم وعطفه ولينه معهم، وحرصه على تعليمهم كتاب الله بأسلوب غير منفر يربطهم من خلاله بكتاب الله عز وجل.
يقول صديقه سمير عيد، “ناصر كان من الخطباء المميزين في القرية والمعدودين على أصابع اليد الواحدة، إذا صعد المنبر أنصت له المصلون في انتباه وشوق، كيف لا وقد عهده الجميع صاحب عمل لا يقل عن القول”.
فيما يقول سالم سيد وهو جاره وأحد أقربائه، إنه لم ير جار مثله في حياته، فقد كان نعم الجار، كما كان نعم الصديق والصاحب والقريب، مضيفا “لم أعهد عليه شرا قط منذ طفولته”.
بينما يصف أحمد محمد، وهو أحد جيرانه أيضا، مكانته لدى أسرته، فهو برغم كونه أصغر إخوته إلا أنه كان راجح العقل فيهم، يعودون إليه دائما فيما يستشكل عليهم من أمور، ويأخذون برأيه الحكيم ونصيحته الصادقة”.
أما عما يراه في سمته وأثره في الآخرين، فيقول أحمد، إن ناصر كان رجلا ربانيا عذب الصوت بقراءة كتاب الله، كثيرا ما يبكي من يصلي خلفه، من جمال صوته ومعايشته لما يقرأ.
يختم أحمد حديثه بأنه يرى أن ناصر قد فاز في النهاية بما يريد، فكثيرا ما كان يسأل الله الشهادة في سبيله ويمني نفسه بها، دون أن يحدد شكلا أو صورة لهذه الشهادة.
بدأ ناصر الاعتصام بميدان رابعة العدوية، ثم انتقل إلى اعتصام ميدان النهضة ولازمه معظم أيامه، ولم يكن يخرج منه إلا لتغيير ملابسه أو قضاء حاجاته الضرورية، وظل فيه حتى قتل يوم الفض برصاصة في جنبه الأيمن، فجرته وفارق الحياة.
تأسف الزوجة المكلومة تهاني حسن، لمقتل زوجها وإن كانت مغتبطة باستشهاده، وكونها الأقرب له والأعلم بتفاصيل حياته، فهي الأقدر على وصف سماته وعلاقته بالآخرين، وتبرز في هذا السياق الصفة الأبرز لديه وهي الإصلاح بين الناس.
تقول في ذلك، “ناصر المتهم بالإرهاب، يعلم جميع أهل البلد دوره في الإصلاح بين الناس، وحبه لذلك وأثره فيهم، حتى أن عائلته كانت على خلاف شديد مع عائلة أخرى، إلا أنه كان الطرف الذي يعمل على تهدئة النفوس والسعي للإصلاح دون محاباة لأحد، والحرص على الحد من أثر المتعصبين من الطرفين”.
تضيف أيضا “كان ناصر على استعداد أن يضحي بنفسه لأجل الآخرين، ولذلك كان أثر خبر مقتله شديدا على الجميع.. في هذا اليوم بكاه الكل، حتى من أيد السيسي، فقد عبروا بشكل واضح عن رفضهم وعدم قبولهم لما حصل مع زوجي ومنهم من غير موقفه وعاد لنصرة الحق”.
تحكي عن اللحظات الأخيرة في حياة زوجها، وآخر اتصال دار بينهم والذي كان عند الساعة السابعة صباحا من يوم المذبحة، الرابع عشر من أغسطس/آب 2013، وكان ذلك قبل مقتله بنصف ساعة، حيث أخبرها بأن عملية الفض باتت في مراحلها الأخيرة.
وبطبيعة الحال، طلبت منه الزوجة المحبة أن يخرج من الميدان ويعود إليهم، فرفض وقال إنه مستمر وسيبقى في الميدان ليقول للظالم، لن نرضى بظلمك ولن نقبل به، وطلب منها أن تنتبه لنفسها ولأولادهم.
كان ناصر برفقة ابنه الثاني بلال، الذي رأى قاتل والده، وهو أحد الضباط، وكذلك قيام الجنود بسرقة أغراضهم من خيمتهم في الاعتصام والتي قتل فيها ناصر وهو أعزل بدم بارد، ووثقت صوره وهو ملقى داخل الخيمة بعد إطلاق الرصاص عليه.
لم يرحموا الطفل الذي رأى مقتل والده بعينيه، وهددوه بالقتل هو كذلك حين حاول الاقتراب من جسد والده في محاولة يائسة لإنقاذه، وضربوه وألقوه إلى جوار إحدى المدرعات التي دهست أمام عينيه إحدى السيدات المشاركات في الاعتصام، قبل أن يجد نفسه بين معتصمين آخرين ممن التجأوا لأحد المباني الجامعية المحيطة بالميدان.
كانت جنازة ناصر حنفي رفقة شهيد آخر لفض النهضة، وهو أحمد راشد، مهيبة لا تكاد يحصى عدد من شاركوا فيها، وظل المشاركون فيها يهتفون مطالبين بالقصاص من القتلة، ويؤكدون العزم على المضي قدما على طريق الشهداء.