محمد السيد.. شجاعة وقناعة وتجرد

قناعة وشجاعة تجرد، ثم إصرار وعزم على المشاركة في مواطن نصرة الحق، وأمنية حاضرة للموت في سبيله، جعلت من بطل قصتنا شخصية فريدة، بقدر ما فجع فراقها محبيه وذويه، بقدر ما لم يستغربوا خاتمته التي ما فتئ يصرح بتمنيه أن ينالها.

محمد السيد محمد (32 عاما) من مواليد 23 أبريل/نيسان 1981، بقرية “زاوية الكرادسة” التابعة لمركز الفيوم في محافظة الفيوم، وهو الأخ السادس لتسع أشقاء، 5 رجال و4 سيدات، وكان حين وافاه الأجل يعول والديه حيث كانا يقيمان معه، وهو متزوج وكان لديه حين استشهاده أحمد (5 سنوات)، ولين (9 أشهر).

كان محمد شديد البر بوالديه، حريصا على إرضائهما، يقدم خدمتهما على أهله وسائر من سواهما، تقول والدته الحاجة ندية عبد الباقي، “كان في نزوله وطلوعه يسلم علي ويقبل رأسي، ويلبي حاجاتي ويرى متطلباتي قبل حاجات أبنائه”، فيما يقول والده “كان يقبل يدي عند كل سلام”.

تميز بطل قصتنا بالأخلاق الفاضلة والسمات الحسنة، حتى بات ممن يندر أن يجود بهم الزمن كما يرى من عرفه، وكان في مقدمة ما عرف به من صفات فريدة، القناعة، وله في ذلك العديد من الشواهد والقصص التي أثارت إعجاب واستحسان من عايشوه.

عمل محمد السيد “مبيض محارة”، ومن يمارس مثل هذه الحرف عادة ما تتسع مساحة الخلاف والجدال بينه وبين أرباب الأعمال، حيث يندر الاتفاق على تفاصيل المهام المطلوبة وما يستحقه المهني من مقابل، إلا أن محمد، ضرب أروع الأمثلة في القناعة والتجرد، ففي أحيان مختلفة كان تقديره لجهده أقل من تقدير صاحب العمل.

يحكي أحدهم فيقول، اتفق محمد على عمل ينجزه بمساعدة بعض العمال، وتوافق مع صاحب العمل قبل البدء فيه على المقابل، والذي تم تقديره بـ 350 جنيها، لكنه بعد إنجاز العمل، اكتفى بأخذ 300، وبرر ذلك بأن كل من شاركوا في العمل أخذوا حقهم وبقي 50 جنيها فرده، وهو الأمر الذي لم يكن معتادا من غيره من الحرفيين.

أحب محمد السيد فعل الخير، وعُرف به كما الحال مع غيره ممن اصطفاهم الله كضحايا للمذابح التي تلت ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون ثاني 2011، وكانت له بصمات في مضامير الخير المختلفة وفي مقدمتها مساعدة الأيتام ورعاية احتياجاتهم.

تقول زوجته فاطمة ربيع، إنه كان نعم الزوج، بل لم يكن الزوج المخلص فحسب، بل كان لها الأب الحامي والأخ الحنون، وكان دائما يدفعها إلى الله، وكان من أهل القيام وصلاة الفجر، التي كان يحرص على أدائها في المسجد رغم مشقة عمله.

اعتاد محمد على اصطحاب ابنه أحمد للصلاة بالمسجد في جميع الصلوات التي تصادف وجوده بالمنزل، حتى في صلاة الفجر، لغرز حب بيوت الله في قلبه، وذلك انطلاقا من حرصه الشديد على تنشئة ابنه تنشئة صالحة، وهو الأمر الذي افتقده أحمد بعد مقتل والده، وغيابه التام عن تفاصيل حياته.

كان محمد حريصا على المشاركة في اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، وكان أقرب إلى أن يكون ممثل عائلته في الاعتصام، فحسب ابن عمه أحمد بكر، كان محمد الوحيد من أفراد العائلة الذي يواظب على المشاركة في الاعتصام، ما جعله مثالا للشجاعة والتفاني بين أهله وذويه.

يعدد ابن عمه أحمد كذلك من مناقبه، اجتهاده الشديد في أعمال الخير، واقتران ذلك لديه بإنكار الذات، فهو حاضر في المغرم وتحمل المشاق، متباطئ في لحظات المغنم والثناءات والتقدير.. ستجده في الصفوف الأولى حين حصر المحتاجين ثم حين توزيع اسطوانات الغاز وشنط الخير عليهم، وحركته دؤوبة ساعة تنظيم الأسواق الخيرية، ولا يرد سائلا.

كان محمد عالي الهمة في الطاعات، حريص على غرس القيم الحسنة والأخلاق القويمة في غيره، يستيقظ دائما لصلاة الفجر ويوقظ أهله، كما كان متعهدا إيقاظ رفقائه في خيمة الاعتصام ومن هم في محيطه، وبعدها يكون في خدمتهم وإن كان هناك من الشباب من هم أولى منه بذلك.

عرف بعلاقته الخاصة بالصلاة، فلا ينادي المنادي لأي صلاة حتى يترك ما في يده من عمل ويهرع للوقوف بين يدي ربه، كما كان حريصا على ألا يدع أحدا من معارفه حتى يربطه بالصلاة ويساعده على التزامها والمداومة عليها، وكان له أسلوب حكيم وحسن في ذلك.

وامتدادا لعلاقته الوثيقة بالمسجد والصلاة، كان محمد خطيبا مفوها، واسع الثقافة والاطلاع رغم تعليمه المتوسط، حيث كان حاصلا على دبلوم في التجارة، فهو حسب العديد من أبناء بلدته، من أفضل من ارتقى المنابر فيها.

لم يكن اصطفاء محمد لنيل الشهادة مستغربا لدى البعض، فهو حسب رأيهم سعى لها بصدق، إلا أنه كان يتمنى أن ينالها على أعتاب المسجد الأقصى، وقبل الموعد بـ 3 أيام، وقبل أذان المغرب بدقائق والجميع في انتظار الإفطار، دعا محمد بحرقة لنفسه بالشهادة، وأمن من سمع دعاءه ممن كانوا حوله.

مرت 3 أيام، ليحل اليوم المشهود لمذبحة النصب التذكاري في السابع والعشرين من يوليو/تموز 2013، ويسقط العشرات من القتلى والمصابين، ويكون نصيب محمد 3 رصاصات تستقر في صدره وأسفل بطنه، ليلقى ربه شهيدا وهو أعزل دون سلاح بموضع ينادي فيه بعودة الحق لأهله.

تقول زوجته، إنها حاولت إثناءه عن الذهاب للاعتصام، خوفا عليه ولأجل أولاده الصغار، لكنه كان يرفض استعطافها، ويقول لها، سأحاسب أمام ربي إن تخاذلت، وفي آخر حديث له معها قبل استشهاده بساعات، أوصاها بوالديه، وأن تراعي أطفالهما.

تحكي الزوجة المكلومة عن أثر خبر الاستشهاد، وكيف أن وقعه كان صعبا على ابنهم أحمد، الذي كان شديد الارتباط بوالده لا يفارقه، حتى أن كان يصعد معه على المنبر أثناء إلقائه خطبة الجمعة، ووصل به الأمر أن أخبرها أنه يتمنى الموت، فقالت له لماذا، فأجابها حتى أرى أبي.

ملابسات استخراج تصريح الدفن واستلام الجثة كانت كغيرها صعبة، فحسب عبد الباقي خاطر، خال زوجة محمد، فقد حاولت السلطات أن يقبل ذوو محمد بكتابة سبب الوفاة “الانتحار” وحين كان الرفض شديدا عرضوا أن يكتب بأنه قتل برصاص الخرطوش، إلا أن العائلة رفضت رفضا قاطعا فكتب السبب أن قتل بـ 3 رصاصات حية.

كانت جنازته مهيبة، حضرها القاصي والداني والمؤيد والمعارض، فمحمد كان محبوبا لدى الجميع، وفي صباح السبت 27 يوليو/تموز ودعت قرية “زاوية الكرادسة” محمد السيد محمد إلى مثواه الأخير وبكاه الحاضرون رافعين أصواتهم بالدعاء على الظالم والتأكيد على المضي قدما لأخذ حق من سالت دماؤهم بغير وجه حق.