لم يكن بحاجة إلى رصيد نشاط حركي، أو سابقة انتماء سياسي، ليجنح لنصرة الحق والدفاع عنه، فالأمر يسري بدمه، وهو حاضر متى ما كانت هناك حاجة أو دافع، لتجده في مقدمة الصفوف.
وليد محمد مندوه (27 سنة) ابن مدينة أوسيم الباسلة التابعة لمحافظة الجيزة، التي قدمت رجالا لم يقبلوا الضيم في مشاهد ومحطات مختلفة منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون ثاني 2011، وحتى الانقلاب العسكري وتوابعه الدامية.
كان وليد الشقيق الأصغر بين 5 أشقاء، يكبره شقيقان وشقيقتان، ومن ثم كانت له مكانة خاصة في العائلة، فهو “آخر العنقود”، إلى جانب اتصافه بقدر واسع من الخلق الحسن والسمات النبيلة التي كانت حاضرة في حديث كل من استحضر سيرته.
حين أتاه الأجل، كان وليد حديث عهد بعش الزوجية، فلم يكد يمر على زواجه عام ونصف، وقد رزقه الله قبل أن تنال منه رصاصة الغدر بشهرين، ابنته رقية التي كان في قمة سعادته بها.
رصيد العاطفة والحنان الكبير لديه والذي كان من المنتظر أن تنعم به ابنته رقية، حظي برصيد منه الكثير ممن عايشوه من أطفال العائلة والجيران وكل من صادفه من الأطفال والصغار في أي مسار من مسارات الحياة، حتى أحبه الصغير قبل الكبير.
كان وليد حاصلا على درجة الليسانس من كلية أصول الدين في جامعة الأزهر، كما كان حافظا لكتاب الله وللكثير من الأحاديث النبوية، وكان غيورا على دينه، مشفقا على من في محيطه من أهل مدينته ومعارفه، لا يضن على أحد بنصح أو إرشاد، وكل ذلك يبثه إليهم بأسلوب محبب وطريقة حسنة.
ومع ذلك، لم تتوفر لوليد فرصة العمل في المسار الذي ارتضاه لنفسه، وأمضى سنوات الدراسة في تحصيل علومه، لما كان عليه واقع مصر من فساد وتضييع للحقوق، كان أحد الدوافع الرئيسية لخروج شرائح الشعب المختلفة في 25 يناير 2011.
وكغيره من أبناء جيله، سعى وليد للحصول على رزقه من خلال احتراف إحدى المهن، حيث عمل في مدينته كهربائيا، ومن خلال ذلك، دخل الكثير من بيوت بلدته، ولمس الناس طيب خلقه وجميل طبعه، فاستقر حبه في نفوسهم أكثر، وعلا قدره لديهم.
وفي هذا السياق، يقول إسلام حسن، وهو أحد جيرانه، إن وليد جهز له كهرباء شقته التي تزوج فيها، فكان نعم المهني، يأمنه الرجل على أهل بيته، أخته وزوجته، أكثر من أي أحد آخر، ومثله لا يمكن نسيانه.
لم يكن لوليد انتماءات سياسية أو حزبية، لكنه كان حاضرا في مشاهد نصرة الحق، لا يتأخر في أي محفل من المحافل التي يرى فيها ظلما ينبغي الوقوف في وجهه، ومع ذلك كانت الابتسامة قرينة حضوره.
فيما يقول محمد صلاح (أحد أقاربه) إن وليد كان “جميل الخلق”، لا تعرف الإساءة سبيلا إلى يده ولسانه، ولم يتحرك لسانه بأي قول يجلب الحزن لغيره، حتى وإن كان الطرف الآخر قد اقترف معه ما يجلب الضيق، لا يقابل ذلك بما قد يراه آخرون حقا وردا بالمثل.
مكانته بين أشقائه كانت كبيرة، فهو الأخ الأصغر الحنون على شقيقتيه المخلص في ود شقيقيه، والمحب لأولادهم، ومن ثم ترك فراقه أثرا عظيما فيهم، وظل الألم يعتصر قلوبهم، والدمع يحضر عند كل ذكرى له.
ورغم مرور عام على لقاء أسرته في برنامج “أحياء في الذاكرة” على شاشة قناة الجزيرة، إلا أن شقيقته صباح لم تتمالك نفسها وخنقتها العبرة، وهي تستذكر شقيقها وتحكي عن شخصيته وعلاقته بهم.
وفي لقاء آخر، تشير صباح إلى أن شقيقها وليد كان شخصية طيبة، وتؤكد أنه كان أفضلهم، يسأل على الجميع، ويحبه الجميع، حرمت طفلته منه قبل أن تدرك وجوده في حياتها، ولم تعد هناك قيمة لأي أمر بعد رحيله، حيث لم يبق إلا قدر كبير من الظلم يفقد الحياة قيمتها.
يؤكد ذلك شقيقه أيمن، حيث يقول إن وليد رغم أنه كان الأصغر إلا أنه كان أعز أفراد العائلة، قلبه معلق بنصر الحق في كل حين، مقربا منه ويرجع إليه في أي أمر يحزبه.
شارك وليد في اعتصامي رابعة والنهضة،عندما جاء يوم 14 أغسطس، بحسب شقيقه أيمن لا يزال يبيت في منزله، حين أراد الالتحاق بالاعتصام بعد ما ورد من أنباء مفزعة عن استهداف المعتصمين، وحاول أحد أصدقائه إثناءه عن المشاركة.
يقول شقيقه أيمن الذي كان إلى جواره حينها، لفت نظري رد وليد، حيث أنه وبعد استنكاره على محدثه، قال له كيف أرجع وأمامي النساء والفتيات يتسابقن للمشاركة، بل سأشارك، ولن أعود إلا ميتا، فكان هذا الرد مصدر استغراب وتعجب.
يتابع أيمن، وجدنا جميع الطرق المؤدية إلى ميدان النهضة مغلقة، وسمعنا أن الحشود تتجه إلى ميدان مصطفى محمود، فذهبنا إليه، والتحمنا بآلاف المصريين الذين كانت قوات الجيش والشرطة تستهدفهم بمختلف أنواع الأسلحة، ورأينا الشهداء والمصابين يتساقطون.
كان آخر عهد أيمن بشقيقه وليد قبل الإصابة، عند الساعة العاشرة والنصف صباحاً تقريبا، وبعد فترة من الانشغال، صلى خلالها أيمن الظهر، بدأ بالبحث عن شقيقه وليد ليخبره أحدهم بأنه مصاب ونقل للمستشفى الميداني.
وهناك، وجده قد أصيب بطلق ناري في الظهر، إلا أنه كان لا يزال في وعيه وطمأنه أطباء المستشفى الميداني، بأن حالته ليست خطيرة لكن يحتاج إلى عملية لإخراج الرصاصة قبل أن تحدث نزيفا داخليا، وحين رآه ابتسم له وليد وحاول طمأنته.
حاول أيمن المسارعة لإتمام إسعاف شقيقه، إلا أن استسلام المستشفيات في المحيط لتعليمات وردت إليهم من قبل السلطات بعدم إسعاف أي مصاب قادم من الاعتصام، نتج عنه استمرار نزيف وليد حتى فاضت روحه إلى بارئها.
يقول أيمن، إن شقيقه وليد أصيب عند الساعة الحادية عشرة واستمر ينزف حتى الساعة الواحدة والنصف، وكان خلال تلك الفترة في وعيه وربما أمكن له الوقوف على قدميه، إلا أن الإهمال المتعمد، حسب أحد أصدقائه، من قبل المستشفيات ومنها المستشفى السلام الدولي ومستشفى مصر الدولي، وغيرها، كان السبب المكمل للوفاة بعد الإصابة.
عادت أسرة وليد بجثمانه إلى مدينته أوسيم، وكانت جنازته في الظهيرة، خرج فيها حشود كبيرة من أهالي المدينة، بعضها كان قد خرج لاستنكار المذابح التي ترد أنباءها من الميادين، وبكاه في الجنازة القريب والبعيد، والصديق والمخالف.