إبراهيم الدهشان.. رائد في عمل الخير
لم يكن يخطر على بال الرجل الستيني ولا أحد من أقربائه أنه بعد سنوات من العمل في رعاية الفقراء وتعليم البسطاء، تكون النهاية بالقتل خنقا داخل صندوق حديدي، وهو رهن الاحتجاز من قبل قوات أمن بلاده رغم صدور قرار بإخلاء سبيله.
إبراهيم الدهشان (62 عاما)، من قرية الصوالح، التابعة لمركز فاقوس، بمحافظة الشرقية، رزق بأربعة من البنات، كن مثالا يحتذى لبنات جيلهن في القرية، ونموذجا رائعا للذرية الصالحة.
كان آخر وظائف الحاج إبراهيم في الجانب الهني بقطاع التدريس، العمل “موجه أول” في مادة اللغة العربية، وكان له عظيم الأثر العلمي والتربوي فيمن تتلمذوا على يديه من أجيال متتابعة سواء من أبناء قريته أو القرى والمدن المجاورة.
وإلى جانب عمله المهني في قطاع التعليم والتربية وبعد خروجه منه على المعاش، كان الحاج إبراهيم رائدا في العمل الخير، معروفا بتميزه وصدارته في هذا المضمار، يشهد له الجميع بتفانيه في خدمة الآخرين، وقد أسس في هذا السياق الجمعية الخيرية الإسلامية في قريته الصوالح.
يستحضر أحمد عطية، وهو أحد أصدقائه، جانبا من ريادته للعمل الخيري في مركز فاقوس، حيث أنه إلى جانب تأسيسه للجمعية الخيرية الإسلامية بقريته، كان مقصدا للكثير من القائمين على الجمعيات الخيرية الأخرى في المركز لما له من خبرة في إدارة المؤسسات الخيرية.
يقول أحمد سعيد، وهو أحد أفراد عائلته، إن الحاج إبراهيم كان كبير العائلة، ورجل فقه وعلم، ومرجع للجميع، كما أنه لم يكن ينام الليل لسعيه في مصالح الأيتام والمساكين.
فيما يشير إسماعيل الدهشان وهو أحد أقاربه، إلى أن الحاج إبراهيم سارع بالتقاعد من عمله كموجه أول لغة عربية للتفرغ بشكل كامل لعمل الخير، والذي كان يجري منه مجرى الدم، ولا يكاد يطيق حياة من دونه.
وإلى جانب عمله الخيري المؤسسي، كان الحاج إبراهيم يحب خدمة الناس ويشارك في الأعمال المجتمعية المختلفة، وعرف عنه حرصه على إفطار الصائمين خلال شهر رمضان المبارك، وله في ذلك أياد بيضاء.
العمل الخيري كان أحد جناحي الحاج إبراهيم في التعاطي مع المجتمع، فيما كان جناحه الآخر الدعوة إلى الله وصحيح الإسلام بالموعظة الحسنة والأسلوب الرقيق، وكان في ذلك مثالا للدعاية المحبب للخير، البعيد عن أي أسلوب منفر، حريص على أن يترك بصمة في كل من يتعامل معهم.
ومن ثم لم يكن من الغريب اتهامه بالانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، حيث كان ديدن سلطات الانقلاب العسكري، اتهام أي متخذ موقف معارضا لسياستها، معروفا بسمته التديني في محيطه، بالانتماء للإخوان ما يسوغ لها محاكمته واستهدافه باعتبارها جماعة محظورة بقرارات سابقة منها.
وهو الأمر الذي نفته أسرته والمقربين منه، فلم يكن الدهشان، منتميا إلى أي حزب سياسي أو كيان حركي، كما أنه لم ينتم لجماعة الإخوان المسلمين، في أي من مراحله العمرية، ويأتي هذا التأكيد من قبلهم في سياق نفي اتهامات تناقلها الناس عنه وعن غيره ممن شهدوا اعتصامي رابعة العدوية والنهضة.
تقول زوجته الحاجة ميسرة، إنه كان نعم الزوج والصديق والأخ والأب، وتستحضر بداية معرفتها به، حيث كان زميلا لشقيقها في الجامعة وهي في التاسعة من عمره، ولكرم أخلاقه وحسن سمته الطيب، خطبه والدها لها وهي في الثانية عشرة من عمرها.
تؤكد الزوجة الوفية، أن زوجها لم يتقدم لخطبتها كما الحال مع أي شاب يخطب عروسته، بل بادر والدها لمصارحته برغبته في أن يتزوج ابنته، ومبرره له أنه لن يجد من هو أفضل منه خلقا ودينا وأصالة وكرما.
وعلى مدار سنوات ارتبطهما الـ32 عاما، لم تر الحاجة ميسرة من زوجها إلا ما يؤكد استحقاقه لهذا السعي، ولأجل ذلك ترى أنه استحق الشهادة في نهاية عمره وتقول “الحمد لله الشهادة ما بتلمش.. والحاج إبراهيم يستحق الشهادة من أخلاقه وصفاته الطيبة وسعيه على المصالح العامة وفعل الخير”.
تستذكر أنه كان يعطي أغلب وقته للمجتمع، وتشير إلى أن الجميع كان يشهد له بذلك، سواء المؤيد أو المعارض، وترى أن ذلك كان “نعمة من الله”، فعمره في تقديرها أطول من عمر قاتليه، لما تركه من أثر حسن وسيرة عطرة، فيما تلاحق من سفكوا دمه، جريمتهم مدى الحياة.
رغم عدم اهتمامه بالسياسة ومتطلباتها، إلا أن ذلك لم يمنع الحاج إبراهيم من الاهتمام بالشأن العام، وكان يحز في نفسه سقوط ضحايا وما يسيل من دماء خلال مرحلة ما بعد الانقلاب العسكري، وحين رأى الدماء التي سالت خلال أحداث الحرس الجمهوري قرر الذهاب بنفسه للوقوف على الأمر.
كان للحاج إبراهيم عمة تسكن في حي مدينة نصر القريب من اعتصام رابعة الدوية، فذهب إلى زيارتها بعد العيد، وفي يوم فض الاعتصام وحين تأكد من أن الأمور خرجت عن السيطرة، قرر العودة إليها، إلا أنه اعتقل في آخر شارع الطيران بمحيط رابعة.
ولكونه لم يسبق له أن ثبت عليه انتماء لتنظيم أو جماعة، أو مشاركة في أي عمل سياسي، ولم تثبت ضده أي تهمة، وبعد أن ذهب إليه محامون، أخبرتهم الجهات الأمنية أنه سيخرج بكفالة، فدفعوها وطلبوا منهم المجيء في اليوم التالي لاستلامه.
شعرت الأسرة بالارتياح وظنوا أن الأمر في طريقه للمعالجة، وأن الحاج إبراهيم ما هي إلا ساعات وسيكون في بيته وبين أهله، وحين ذهب بعض من أقربائه لاستلامه في اليوم التالي فوجئوا بأنه تم ترحيله بالخطأ لسجن أبو زعبل حسب زعم مأمور القسم.
وبعد شد وجذب، وبينما تسعى الأسرة لتدارك الأمر وإخراجه قبل الدخول في دوامة لا يعلم نهايتها أحد، سمعوا من خلال وسائل الإعلام نبأ عربة الترحيلات ومقتل عدد من المعتقلين المرحلين، ووجدوا اسم الحاج إبراهيم بينهم فنزل الخبر كالصاعقة عليهم.
وكما العادة، تمر الأسرة بحلقات صعبة مفرغة تنتهي باستلام الجثمان بعد معاناة، لتقام له جنازة مهيبة يحضرها جميع أهل القرية إضافة للمحبين من القرى والمدن المجاورة، حتى من عارض مواقف الحاج وأيد موقف السلطات من فض الاعتصام، وعبر الجميع عن اعتزازه ومحبته وحزنه الشديد لهذا الفقد.