أحمد مرتضى.. الشاب الزاهد المحبوب

لم يسبق غيره بصلاة وقراءة قرآن رغم حرصه عليهما، لكنه تميز بحسن خلقه وتطبيقه الصحيح لتعاليم دينه، هكذا كان يرى والد بطل قصتنا عنصر تميز ابنه الذي لأجله استحق الاصطفاء والشهادة.

أحمد مرتضى (23 عاما) من مواليد 5 مايو/أيار 1990، وهو من أبناء محافظة بني سويف، كان شابا خلوقا متفوقا، تخرج من الثانوية العامة بتقدير 90 بالمئة، إلا أن طموحه دفعه لالتحاق بمعهد لسنتين يؤهله لعمل معادلة تتيح له الالتحاق بكلية الهندسة.

ورغم أن الأمر استدعى الالتحاق بالجيش، حيث كان ضمن المطلوبين للتجنيد، لكن ذلك لم يفت من عزمه، وقضى فترة تجنيده التي استمرت عاما ونصف، ثم التحق بكلية الهندسة في جامعة بني سويف، وأمضى فيها عامه الأول (الإعدادي)، قبل أن يأتيه الأجل في عامه الثاني (أولى مدني).

ظل أحمد محافظا على تفوقه الدراسي خلال الفترة التي قضاها في جامعته التي أحبها، حيث كان ضمن أوائل دفعته في السنة الإعدادية، وجرى تكريمه في العام اللاحق بعد استشهاده.

وحين ذكر اسمه خلال حفل التكريم، وقف الحضور جميعاً بما فيهم هيئة التدريس بالكلية، إجلالاً وتقديراً لخلقه الحميد وسيرته الحميدة وتفوقه مع تصفيق شديد وهتافات رددها الحاضرون “في الجنة يا شهيد”، كما حاز تقدير جيد جدا في الترم الأول من السنة الثانية (أولى مدني).

عرف أحمد بأخلاقه الحسنة، وخاصة خلق بر الوالدين، وكان بمثابة القدوة لإخوته وأصدقائه ومن هم في محيطه، ومنهم من هو أكبر منه سنا،

كان زاهدا في الدنيا وبهرجتها، وكان يظهر ذلك من خلال اهتماماته وتوجهاته، بل وحتى سمته ومظهره وملبسه، ورغم ابتسامته التي لا تفارق وجهه، إلا أنه وبعد المشاهد اللاحقة للانقلاب العسكري، وما تخللها من سقوط مئات الشهداء، كان من السهل ملاحظة الحزن في عينيه الذي يسعى لإخفائه بتلك الابتسامة.

عرف أحمد بمسارعته في مساعدة من يقصده من جيرانه وأصدقائه، وكان صاحب فضل على أقرانه في دفعته، حيث كان يشرح لهم ما يصعب من المناهج، ويعد لوحات في كليته دون كتابة اسمه عليها لتساعدهم في دراستهم.

تكشف والدته عن مآثره، ومنها إيثاره الآخرين على نفسه، وتذكر من ذلك كيف أنه كان حين يجلب ملابس جديدة، يعرضها على أخيه الأكبر كي يأخذ منها ما يريد، كما كان بارا بها لا يحتمل حزنها وغضبها، وإذا ما احتد في نقاش معها يسارع إلى تقبيل رأسها ويديها ويعتذر.

تؤكد الوالدة المحبة، ان ابنها كان يخرج في المسيرات الرافضة للظلم دفاعا عنه حقه وبلده ودينه، وكان محبوبا من الصغير قبل الكبير، ومن تميزه كانت تكنى به رغم أنه ليس الأكبر، وكان لا يرد طالبا، ويؤدي الخدمة بإخلاص.

بينما تحكي أخته في الرضاعة، عن شدة تفاؤله، وحرصه على ألا يذكر أحدا إلا بالخير، وكرهه للغيبة والنميمة، كما تنقل على أحد أصحابه أنه رآه في المنام بعد استشهاده فسأله أين أنت الآن، فقال له في الجنة.

في يوم الجمعة 24 يناير 2014، والذي يصادف اليوم السابق للذكرى الثالثة لثورة يناير، شارك أحمد في إحدى المسيرات المطالبة بالقصاص للشهداء وإسقاط حكم العسكر، والتي كالعادة، استهدفت من قبل قوات الأمن بالرصاص الحي وقنابل الغاز المسيل للدموع، فكان قدره أن يصاب برصاصة في الرأس والرقبة.

ينقل صديق له عن أحد شهود العيان، أنه حين أصيب أحمد حاول عدد من أهالي المنطقة التي أصيب فيها حمله لإسعافه، إلا أن أحد الضباط نهرهم وسبهم وهددهم بأنه من سيحمله سيستهدف مثله، وترك ينزف نصف ساعة حتى فاضت روحه.

كان آخر ما كتبه في صفحته الشخصية بموقع “فيسبوك”، والذي كان مطلع الشهر الذي استشهد فيه “قومٌ أعلناها نصرٌ أو استشهاد”.

يحكي أحد أصدقاء أحمد عن ثبات والده حين كان معنيا بإبلاغه بنبإ وفاة ابنه، وكيف أنه استرجع واحتسبه عند الله شهيدا، كما حمدت والدته ربها بمجرد سماعها للخبر، وسألا في هدوء عن مكان تواجد جثمانه، كما كانا ثابتين حين الجنازة والدفن.

أنشأ رفقاؤه في الدفعة صفحة خاصة بموقع فيسبوك، أسموها دفعة الشهيد أحمد مرتضى، وانضم إليها قرابة 225 من أبناء الدفعة، ومع صورته التي تصدرت الصفحة، دونوا الآية “ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون”، وشعار “في الجنة يا شهيد”

قبل ساعة أجله بيومين، مر أحمد من أمام منزل أحد أصدقائه، والذي رجاه ألا يشارك في المظاهرات بعدما باتت تستهدف بشكل واضح من قبل قوات الأمن، وحين رفض هذا المطلب، رجاه صديقه ألا يتصدرها، فكان رد أحمد عليه “وهل أنا أفضل ممن استشهدوا” ثم احتضنه بشدة، وعلم الصديق بعد الوفاة أنه كان حضن الوداع.

أثار استشهاد أحمد غضبا شديدا في الأوساط الطلابية، لما اشتهر به من أخلاق حميدة، وأصدر اتحاد طلاب كليته بيانا، استنكر فيه قيام نظام العسكر بقتله، فهو الذي “يشهد له القاصي والداني بحسن الخلق”، معاهدين الله بعدم ترك حق الشهيد مهما كلفهم ذلك.

ظل أحمد في وجدان أصدقائه حاضرا، يرفعون لافتات باسمه في مسيراتهم وينادون بحقه، ويحيون ذكراه في سنوات لاحقة، كما قام أكثر من شخص بأداء العمرة له، فيما نعاه أساتذة كليته لسيرته العطرة، حتى من لم يسبق له تدريسه منهم.

انطلقت جنازته من مسجد عبد العزيز عبد الغني في مدينة بني سويف، وكانت حاشدة، كما لم تخل من مبشرات أثلجت صدر أحبابه، ومنهم صديقه علي ربيع، الذي وجد رائحة زكية خلال الجنازة، وأبى إلا أن يستوثق أن مصدرها قبره، فانتظر حتى مضى الدافنون والمعزون، وتأكد من الأمر بعد أن ظلت الرائحة تعطر المكان.