عند ذكر مذبحة رابعة وضحاياها، يحضر في الذهن من سقطوا في الميدان خلال عملية الفض، ومن بعدهم من سقط في فض اعتصام النهضة، وغير بعيد ضحايا سقطوا بشارع مصطفى محمود، لكن ربما لا يعلم البعض أن هناك من سقط بالتزامن في محافظات أخرى، ومنهم بطل قصتنا.
علي جابر جوهر (27 سنة)، مواليد مدينة دمنهور بمحافظة البحيرة، في الخامس من أكتوبر/تشرين أول من عام 1986، وهو الأخ الأصغر لشقيق أكبر اسمه محمد، و3 شقيقات، وكان طالبا في كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر.
عرف علي بجده واجتهاده، فإضافة إلى دراسته الجامعية، كان يعمل مندوب مبيعات لأجهزة طبية في مدينة الإسكندرية، وكان متميزا في عمله فيها، بشهادة زملائه والأطباء الذين يتعاملون معه.
كما كانت لديه هواية التصوير، وأحب العمل الصحفي، وكان له دور في البث المباشر للفعاليات الرافضة للانقلاب العسكري.
وكالكثيرين ممن نالوا الشهادة في طريق دفاعهم عن الحق ورفضهم الظلم، عُرف علي بين أقرانه وفي محيطه الاجتماعي والعملي، بدماثة الخلق، وحبه للعمل الخيري، ورغم كونه الأخ الأصغر (آخر العنقود) إلا أنه كان شديد البر لوالديه، حريصا على رضاهم وراحتهم.
ترك رحيله أثرا شديدا على الأسرة، حيث كان قريبا من جميع أفرادها وخاصة شقيقه الأكبر محمد، الذي لم يمل من إحياء ذكراه والتعبير عن شوقه له وأحاسيس الفقد التي يشعر بها لفراقه، كما لفت نظره حب الناس له والذي ظهر بشكل جلي بعد وفاته.
تحكي والدته بحرقة وألم، عن مناقبه وخلقه الرفيع، وتستغرب في براءة كيف تسنى لأي شخص أو جهة أن تقتل ابنها وأقرانه من الشباب، فابنها “كان محترما لم يشرب سجارة ولا حتى أي من المنبهات بما فيها الشاي!”
كان علي حريصا على المشاركة في الأعمال الخيرية، لا يكاد يترك مناسبة للمساهمة في أعمال البر إلا وكان له نصيب، وكان من صانعي البسمة والبهجة على وجوه الأطفال الأيتام، وله الدور البارز في ذلك خلال يوم اليتيم.
حبه للعمل الخيري وخاصة مع الأيتام، كان انعكاسا طبيعيا لعاطفته الجياشة، وحنانه الذي يبثه لمن يستحق، ومن ثم كان محبوبا ومقربا من أطفال العائلة، يربطه بهم علاقة خاصة، ودائما ما كان يدخل عليهم البهجة بتقديم الهدايا والألعاب.
وإضافة لذلك، فقد كان شابا مليئا بالحيوية والنشاط، مقبلا على الحياة، وهو ما كان له دور في استجلاب محبة وتقدير الآخرين، يحبون الجلوس معه والأنس به.
وإلى جانب ما عرف عنه من أخلاق حميدة ومميزات اجتماعية فريدة، كان علي متدينا محافظا على الصلوات، غيورا على دينه ووطنه، لا يخاف في الله لومة لائم.
يقول صديقه، محمد عوض، كان علي أكثر واحد يجمعنا على الخير، وفي أوقات المحن كانت نصيحته حاضرة، وكان يثبتنا بالآيات ومواقف السيرة، وقد كان دليلا على الخير جاذبا إليه، مثالا للأخ والصديق المثالي.
كان علي قد دخل مرحلة الخطوبة، وبدأ إجراءات الاستعداد للزفاف والارتباط، وقد تبقى له شهور قليلة ليتم عرسه، إلا أنه حين سأله أحد رفقائه قبل استشهاده بأربعة أيام عن موعد الزفاف، أجابه “مش عروسة في الجنة أحلى”.
شارك علي في ثورة الخامس والعشين من يناير 2011، وشهد محطاتها المختلفة، وكان حريصا على ألا تفوته أي منها، كما لم يتوان في الوقوف أمام الانقلاب العسكري، والإعلان بشكل واضح رفضه رغم حالة التذبذب الواسعة التي وقع فيها قطاع كبير من الثوار.
كان علي يتوق للشهادة، خاصة بعد أن سبقه إليها صديقين، أحدهما إسلام مسعود الذي استشهد قبله بعام في دمنهور وذهب معه إلى المستشفى، والثاني مصطفى الهنداوي الذي استشهد في أحداث المنصة وذهب وأحضره مع أقاربه.
في يوم الأربعاء الدامي، الذي شهد مذبحة فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، وإثر ورود الأنباء بما كان يحدث، خرجت جموع المصريين في العديد من المحافظات للتعبير عن رفضهم واستنكارهم لعمليات القتل الحاصلة للمتظاهرين، ومنها مظاهرات خرجت في محافظة البحيرة أمام الديوان العام للمحافظة بمدينة دمنهور.
وكان علي ضمن الحشود الغفيرة التي شاركت في هذه المظاهرة، التي رددت الهتافات المطالبة برفع الظلم والفساد، وإيقاف نزيف الدم المستمر في رابعة والنهضة، لكنهم لم يسلموا كذلك من رصاص الجيش والشرطة، والذي أوقع منهم عشرات القتلى والمصابين.
وكان من بين الضحايا علي، الذي أصيب برصاصات غادرة في الصدر وهو متواجد أمام نقابة التطبيقيين، نقل على إثرها إلى المستشفى، وأثناء حمله على إحدى التروسيكلات قال: “الحمد لله “، ثم نطق بالشهادتين وفاضت روحه إلى بارئها قبل وصوله إلى المستشفى، كما روى شاهد عيان كان بصحبته.
كانت جنازة علي مهيبة، شارك فيها حشود غفيرة، أكدت بأعدادها أن قطاعا ليس بالقليل من الشعب المصري، لا يتفق مع ما تصر سلطات الانقلاب على تمريره من أن من خرج ضدها إرهابي منبوذ، وتخلل تلك الجنازة هتافات غاضبة، وزغاريد متعالية على الألم والوجع.
وفي يوم، تجمع طلبة كان يعلمهم، وزاروا قبره، وطلب منهم أحد زملائه أن يتحدث كل منهم عن موقف له مع علي، ففوجئ بتعرفه من خلال هذه المواقف على مناقب جديدة للشهيد لم يكن يعلموها وهو الذي كان يظن أنه على دراية كاملة به.
كان لعلي نصيب وافر من أداء العمرات عنه بعد رحيله، سواء من أقرباء أو محبين، بل تجاوز الأمر إلى أن أدى أحد أصدقائه الأوفياء منسك الحج عنه، وهو من الأمور النادرة حصولها