محمود الجبالي.. الشاب الجسور
“دماء رابعة” كانت السبب في تحويل موقفه، والتي كان منها دماء أحد أقرب الناس إليه وهو بلال ابن عمه، ليأخذ على نفسه عهدا بعدم ترك الفعاليات الرافضة للظلم، ولم تكد تمر 5 أشهر حتى لحق به، ويضاف دمه لرصيد الدماء الكبير التي أسالها العسكر في سبيل مواجته لرافضي الانقلاب.
محمود علي الجبالي (20 عاما)، من مواليد قرية مطرطارس، التابعة لمركز سنورس بمحافظة الفيوم، وذلك في العاشر من يناير/كانون ثان 1994، وكان استشهاده في الثالث من يناير 2014، قبل الذكرى العشرين لمولده بأسبوع.
حرص والده على تنشئته تنشئة صالحة، حيث تعهده بحفظ القرآن منذ الصغر، ورغم رغبته الشديدة في أن يراه حافظا لكتاب الله، إلا أنه لم يضغط عليه لذلك، وبدأ تعليمه بشكل جدي ومكثف وهو في التاسعة من عمره، ليتم حفظ كتاب الله وهو الثانية عشر من العمر، وكان صوته بالقرآن نديا جميلا.
كان محمد شابا خلوقا ذا أدب وحياء، يعامل الجميع بالحسنى، القريب منهم والبعيد، ويحرص على مشاركة الآخرين أفراحهم وأحزانهم، فلا تكاد تجد مناسبة في محيطه ودائرته إلا وتجد محمد متقدما في المشاركة الفاعلة، بقصد المواساة أو مشاركة البهجة والسرور.
ومن المواقف التي تظهر حرصه على هذه المشاركة، ما حكاه أحد أصدقائه عنه حيث أنه رغم إجرائه عملية جراحية لإزالة كيس دهني، وتشديد الأطباء على ضرورة ملازمته الفراش، لم يتأخر عن حضور زفاف شقيقته في اليوم التالي للعملية، مستعليا على ألمه ووجعه.
كان محمد حين استشهاده طالبا في كلية الآداب قسم جغرافيا، وكان طموحا مقبلا على الحياة، يخطط للسفر عقب تخرجه للعمل مهندس مساحة في الخارج، ويحلم بتكوين أسرة، يشق طريقه لتحقيق حياة ناجحة.
تميز محمود ببره الشديد بوالدَيه، فكان حريصا على إرضائهما، واستمر بره بوالدته بعد وفاتها، حيث كان كثير الدعاء لها، كما كان يهدي أجر ختمات يتلوها لكتاب الله لها، وبعد وفاتها، كان يتلمس رضا والده، ويحرص كل الحرص على ألا يكون مصدر حزن أو غضب له.
كان محمود كذلك مقربا لشقيقتيه، اللتين أظهرتا حزنا عميقا لفراقه، وأبديتا صدمتهما الشديدة لفقده، فقد كان لهما الأخ الحنون الذي يصعب تعويضه.
بعد وفاته، أعد محبوه مقطع فيديو، يتخيلونه فيه يعرف عن نفسه، فيحكي عن حلم والده له بأن يراه قارئا حاذقا لكتاب الله كجده الشيخ محمد عبد العزيز، يؤم الناس في المسجد، وكيف أنه وفق لتحقيق ذلك في وقت مبكر، وبدأ كذلك في تعليم الأطفال كتاب الله.
يستحضر كذلك حرصه على أن يراه والده في الموطن الذي يحب أن يراه فيه، وعن اعتياده منذ الصغر على الوقوف مع الحق ونصرة المظلوم مهما كان انتماؤه ومرجعيته، وعن قابليته لتغيير موقفه إن اتضحت الصورة له بعد تداخلها.
كان محمد في البداية معارضا لحكم الرئيس الراحل محمد مرسي، ولم يشارك في انتخابه، وكان له موقف سلبي من جماعة الإخوان المسلمين، لا يؤيد نشاطهم أو حضورهم في المشهد المصري، وهو ما كان عليه حال شريحة غير قليلة من المصريين بسبب حملات التشويه الممنهجة التي كانت تقوم بها وسائل الإعلام ضد الجماعة ورموزها.
واستمر لديه هذا التصور، وهو غير مكترث كثيرا بمجريات المشهد وتفاعلاته، ومنشغل عن ذلك بشؤونه الخاصة وطموحاته الشخصية، حتى فجع بنبإ سقوط بلال ابن عمه ضمن ضحايا فض اعتصام رابعة العدوية، وكان مقربا إليه، فحزن حزنا شديدا وذهب للبحث عن جثمانه ونقله إلى قريتهم لدفنه.
وحين وصل إلى محيط ميدان رابعة، ووقف بنفسه على ما يحدث، ورأى بعينيه ما ارتكبته قوات الجيش والشرطة بحق المتظاهريين السلميين، والتعنتات التي تمت معه ضمن ذوي ابن عمه بلال، حين أرادوا استلام جثمانه، وإصرار السلطات على أن يقروا بأنه مات منتحرا ليقبلوا باستلام جثمانه، أعاد تقييم المشهد بشكل دفعه لتغيير جذري في موقفه.
وفي مقابل عدم انخراطه السابق لهذا الموقف في الشأن السياسي، وعزوفه عن المشاركة في فعاليات الثورة، كان محمود محبا للعمل الخيري، حريصا على المشاركة فيما يتوفر له من مسارات تحقق له ذلك الأمر، ومن ذلك مشاركته في نشاطات جمعية الرسالة بمحافظته.
لكنه ومنذ ذلك الحين، أخذ عهدا على نفسه بالعمل على استرجاع حق ابن عمه وباقي شهداء الفض، ولم يترك وقفة أو مسيرة أو أي حراك معارض للانقلاب العسكري، إلا وشارك فيه، متقدما الصفوف في قوة وجزالة، حتى جاء موعده في الثالث من يناير 2014.
كان محمود معروفا بإقدامه وشجاعته، وهو الأمر الذي كان يدفع والده لمحاولة منعه من المشاركة في المسيرات، لما يعلمه من حرصه على أن يكون في مقدمة الصفوف وهو الأمر الذي يزيد من احتمالية إصابته واستهدافه من قبل قوات الأمن وهو ما كان.
يحكي أحد أقرانه موقفا يعكس تلك الشجاعة، حين تعطلت إحدى العربات التابعة للأمن في منطقتهم، وطلب رجال الأمن فيها منه وعدد من أصدقائه دفع العربة، فرفض محمود، وحين سئل عن السبب، أظهر موقفه الرافض لتجاوزات قوات الأمن، فغضب ضابط الشرطة وحاول إرهابه وإجباره على دفع العربة لكن محمود أصر على الرفض.
يحكي صديقه إسلام محمد، عن ملابسات استشهاده، حيث كان مشاركا في إحدى المظاهرات الرافضة للانقلاب العسكري في محافظته الفيوم، وكعادته كان حريصا على أن يكون في المقدمة، وعند نزول المسيرة من أعلى كوبري المسلة، واجعتهم مدرعات الشرطة بإطلاق كثيف للرصاص المطاطي والحي، وكان نصيب محمود رصاصة أودت بحياته.
وحسب شهادة إسلام، فإن آخر هتاف ردده محمود، “في سبيل الله قمنا نبتغي رفع الواء.. لا لدينا قد عملنا نحن للدين فداء”، كما لقنه صديقه الشهادة التي كانت آخر ما نطق به قبل خروج أنفاسه الأخيرة.
كتب محمود وصية مودع يوم الخميس ليلة استشهاده، ومنها “إلى والدي.. يعلم الله أني أحبك كثيرا وما فكرت يوما في عقوقك، فادع لي بالرحمة والمغفرة، إلى إخوتي يعلم الله أني احبكم كثيرا وما فكرت يوما أن أضايقكم ولكنه الشيطان دائما يريد أن يفرق بيننا.. فادعوا لي بالرحمة والمغفرة”.
وكان من آخر ما كتب عبر صفحته الخاصة فموقع فيسبوك “أنا لا أدعو إلى نعم أو لا أو حتى المقاطعة لما يسمونه إستفتاء على الدستور، ببساطة: لأن عندي دستور ولي رئيس شرعي ، اما هذا الهراء فبعيد عنى، وهذه الوثيقة الدموية لا تعنيني بشيء.. يسقط يسقط حكم العسكر”.
كانت جنازة محمود مهيبة، شارك فيها المئات، كما حرص محبوه على إبقاء ذكراه حاضرة، عبر الهتاف له في وقفات لاحقة، وإحياء ذكرى وفاته في أعوام تالية.