بعد ظهر الثامن عشر من أغسطس 2013، ردد منصور عبد التواب (37 عاما) الشهادتين، ضمن 45 سجينا كانوا متكدسين بعربة ترحيلات لا تكاد تتسع لنصفهم، بعد أن فقدوا الأمل في الاستجابة لاستغاثاتهم المتصاعدة أمام لظى صُنع لهم عن عمد وسبق ترصد.
وما هي إلا برهة زمن، وفاضت روح منصور إلى بارئها، ضمن أرواح 38 آخرين ممن كانوا في عربة الترحيلات، تشكوا ساعات مؤلمة عاناها أصحابها، بسبب ما تعرضوا له فيما عرف بـ “مجزرة عربة الترحيلات”.
منصور عبد التواب عباس، من مواليد عام 1976، بقرية الإعلام التابعة لمركز الفيوم، في محافظة الفيوم، وكان متزوجا وله 3 من الأولاد، مسعود (13 سنة)، ومحمد (11 سنة)، ونور (8 سنوات)، وهي أعمارهم وقت وفاته.
كان منصور يملك مطعما في بلدته، يستيقظ قبل الفجر لمتابعة العمل فيه وهو باش مقبل على زبائنه، إلا أن ذلك لم يمنعه من القيام بما ألزم به نفسه من أدوار اجتماعية، وحضور سياسي يسعى من خلاله لخدمة وطنه وشعبه.
فقد كان منصور ذا نشاط اجتماعي معروف، تجاوز فيه خدمة أهل بلدته الصغيرة إلى خدمة من يقصده من سائر مدن وقرى محافظة الفيوم، وربما في حالات تجاوزهم لقضاء حاجة من يقدر من أهل وطنه جميعا، حتى أشفق عليه بعض من يعرفونه، لما يحمل نفسه به من تكاليف وأعباء، وباتوا يطلبون منه القصد والراحة.
حضوره السياسي كان ظاهرا وسابقا لثورة يناير، واستمر حتى وفاته المنية، فقبل الثورة كان أحد أعضاء حركة “كفاية” في عهد الرئيس المخلوع الراحل محمد حسني مبارك، كما كان عضوا في المكتب التنسيقي للجمعية الوطنية للتغيير، وتولى منصب سكرتير عام حزب غد الثورة (ليبرالي) في الفيوم، حتى وفاته.
شارك منصور في مختلف مشاهد ثورة 25 يناير منذ تباشيرها الأولى، فقد كان حاضرا بميدان التحرير خلال الثمانية عشر يوما التي سبقت تنحي مبارك، وعبر محطات الثورة التالية، انتهاء باعتصام رابعة العدوية الذي قام ضد الانقلاب العسكري، حتى فاضت روحه لبارئها في سيارة الترحيلات.
يحكي صديقه عمر محمد، عن رسوخ قدمه في عمل الخير، وسبقه إليه، وكيف أنه كان له مساهمات شهرية، ويستثمر علاقاته بالمسؤولين لقضاء حوائج الآخرين، ومن ذلك علاقته بمحافظ الفيوم حينها، والذي لم يكن يتحرج في قصده لخدمة البسطاء والمحتاجين.
ورغم معارضته للرئيس الراحل محمد مرسي، ومشاركته غيره التقدير بأنه ارتكب الكثير من الأخطاء إلا أنه كان يقرأ المشهد في فتراته الأخيرة بأن ما يحدث يأتي في إطار إفشال لتجربة مصر الديمقراطية، وأن ما يحدث تمهيد لتمكن العسكر من الحكم.
نصحه محبوه ممن في محيطه، ومنهم ابن خالته أحمد عويس، بأن يأخذ قسطا من الراحة في يومه، حتى يتسنى له المواصلة والاستمرار في نشاطه المعتاد، لكنه كان يرفض يذلك، ويقول “كله في خدمة الوطن والدين”.
أحد الشباب يذكر قصة له مع الشيخ منصور أثناء اعتصام رابعة، حيث أيقظه يوم مجزرة الحرس الجمهوري للانضمام للمتظاهرين، لكنه وجد الشيخ منصور بدل المسارعة للذهاب إلى المظاهرة توضأ.. وحين استعجله الشاب المرافق، قال له دعني حتى إذا من الله علي بالشهادة قابلته على وضوء.
يحكي جاره، ناصر حمدي، كيف أنه كان خدميا من الدرجة الأولى، ويستذكر أحد مواقفه في بداية معرفته به، حين طلب منه خدمة، ورغم عدم المعرفة الوثيقة بينهما، لم يتوان في المبادرة بالمساعدة وتقديم ما يمكن تقديمه، كيف أنه لقضاء غرضه، تواصل مع المحافظ أكثر من مرة دون تباطؤ.
لم يكن منصور منتميا لجماعة لإخوان المسلمين، بل لم يكن حتى يميل إليهم كغيره، ومن ثم كان يزعجه أن يتهم كل من يطالب بالحق بأنه منتم للإخوان.
كما كان صاحب مواقف تشهد بتجرده، يقول شقيقه مسعود، إنه كان يعيش للناس، يفكر في غيره، وما يشغل باله هو حاجة البلد وخدمة الناس، وهي حاله حتى منذ عهد مبارك، ولذلك انضم لحركة “كفاية” و”الجمعية الوطنية للتغيير”، وظل سكرتيرا عاما لحزب غد الثورة في الفيوم حتى وفاته.
فيما يصف ابن خالته، أحمد عويس، كيف أن خدمة الناس كانت همه الأول، حيث كان مع تواجده في مطعمه من الصباح الباكر، لا يحول ذلك دون التواجد وسط النهار في المصالح الحكومية لقضاء حوائج الناس، كما كان يشارك مساءا في توزيع الخبز وعبوات الغاز على البسطاء والمحتاجين.
كان لاستشهاده بالغ الأثر في نفوس الناس ونقطة تحول في تصوراتهم ومواقفهم، وخاصة الشباب الذين كانوا يعرفونه بشكل مباشر، كما أن سؤال الفقراء عنه في الشارع، يعطي صورة جلية لقدره ومكانته وقيمته لديهم.
وبينما كانت موجة التخوين لمن حضروا اعتصام رابعة العدوية في أعلى مستوياتها، والترهيب من التعاطف معهم هي عنوان المرحلة حينها، لم يمنع ذلك جل أهالي قريته “الإعلام” في محافظة الفيوم، من المشاركة في جنازته، التي طافت القرية، وتعالى هتاف المشاركين فيها “يا منصور نام وارتاح واحنا نكمل الكفاح”، “يا منصور اتهنى اتهنى.. واستنانا على باب الجنة”.