على الرغم من بساطة الحال، وضيق المعيشة وشظفها، لم يحل ذلك دون أن يكون لبطل قصتنا حضورا في الحراك الممتد منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، ومحطاته المختلفة التي سبقت الانقلاب العسكري، ثم تبعته حتى محطته الأخيرة التي سقط فيها شهيدا.
محمود جمعة (24 عاما)، ولد في السابع عشر من أكتوبر لعام 1989، خرج في الرابع عشر من يناير/كانون الثاني من عام 2014 بالتزامن مع الاستفتاء على الدستور الذي صاغه النظام بمصر عقب الانقلاب العسكري، للتعبير بسلمية مع آلاف المصريين عن رفضه لإجراء هذا الاستفتاء، والمطالبة بعودة شرعية الصندوق التي انتهكها الانقلاب.
وعقب صلاته الظهر في مسجد النور، خرج مع المئات من أهل مدينة ناصر التابعة لمحافظة بني سويف، يهتفون ضد الاستفتاء لكن بعيدا عن مقرات إقامته كما ذكر شقيقه وعدد من شهود العيان، لكن قوات الأمن هاجمتهم بضراوة، وأطلقت قنابل الغاز والرصاص الحي والخرطوش بشكل مكثف.
حاول المتظاهرون إقناع القوات بأنهم مسالمون، ولا نية لديهم للتخريب أو الاقتراب من مقرات الاستفتاء، إلا أنهم لم يجدوا آذانا صاغية، ووقع العشرات من المصابين، من بيهم محمود الذي أصيب بطلق ناري في الصدر خرج من البطن.
حمله متظاهرون إلى المستشفى بينما أنفاسه لازالت حاضرة، في محاولة لإسعافه وإنقاذه، إلا أن القدر كان أسبق، ولم يكد يبلغ عتبات المستشفى حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، لينضم إلى 60 شهيدا سقطوا في هذا اليوم خلال مشاركتهم في المظاهرات الرافضة للاستفتاء.
كان محمود طالبا في كلية التربية، ووصل فيها حتى الفرقة الثالثة، إلا أن ضيق الحال دفعه لترك الدراسة ولو إلى حين، والعمل في حرفة التبليط، ليعين أسرته على تكاليف الحياة.
كان يمتهن التبليط حتى خلال دراسته قبل أن يتركها، لكنه كان يفضل العمل في المساجد، حيث يقوم بتبليطها طمعا في أن ينال المثوبة والأجر من الله على ذلك، وكان يعمل في أحد مساجد بلدته قبل استشهاده بـ 3 أيام، وقال حينها لأحد العاملين معه، حين استشهد، أتمنى أن يُصلى علي في هذا المسجد.
يؤكد شقيقه محمد الذي كان مشاركا معه في المسيرة، أنها كانت في طريق معاكس تماما للجهة التي بها مقرات لجان الاستفتاء، لكن قوات الأمن أبت إلا أن تهاجمهم وتطلق عليهم الغاز والرصاص حتى سقط شقيقه شهيدا.
تقول والدته، محمود كان بارا بي حريصا على مشاعري وعدم إغضابي، وكان حال خروجه أو عودته من العمل يقبل يدي ورأسي ويسألني عما إذا كنت أحتاج لأي أمر.
تستذكر كيف أنه كان من حين لآخر يصرح لها بأمنيته في أن يموت شهيدا، وحين كانت تظهر له قلقها عليه، يقول لها، لا تخافي يا أمي، أنا خارج للدفاع عن وطني والبحث عن حقوق شهداء ماتوا في سبيل الحق.
وتشير في هذا السياق إلى أنه له العديد من الأصدقاء سبقوه إلى الشهادة في فض اعتصام رابعة العدوية وما تلاها، ومن ثم كان حريصا دائما على استحضار نية الوفاء لهم.
فيما تقول شقيقته الكبرى انتصار، إن شقيقها محمود لم يكن مجرد أخ أصغر، بل كان لها بمثابة أفضل الأبناء، فلم تطلب منه في أي مرة طلبا وتأخر في تلبيته، وكان معها في أي موقف وأي احتياج، حتى في حال تعبه وإرهاقه، لم يكن يتأخر عن قضاء حوائجها، هي وأبناءها.
وهو الأمر الذي أكدته خديجة طه ابنة أخته، التي قالت إن خالها محمود كان يعاملهم معاملة خاصة، فقد كان يحب ممازحتهم وإدخال السرور على قلوبهم وتوجيههم للصواب، ولذا كان وقع الخبر عليهم صعبا جدا، وحاولوا لفترة عدم التصديق، لكنها في ذات الوقت، تؤكد أنه كان يسعى للشهادة ويتمناها.
تحكي شقيقته كيف كان وقع الخبر عليها حين علمت، والذي ظل الطبيب يراوح مكانه قبل أن يلقي على مسامعهم الخبر الصادم، لكنه في النهاية لم يكن أمامه إلا أن يوصل لهم الخبر في جملة واحدة، بقوله “ليعوض الله عليكم”.
بينما تقول شقيقته الأخرى أم هاشم، إن محمود كان حريصا على ودنا ووصلنا، وفي الأعياد كان يسبق غيره لمعايدتنا وتهنئتنا، ولم يرفع صوته يوما على أخواته البنات أو يعنفهم تحت أي مبرر، بل كان بشوشا شديد الترحاب بهم حين لقياهم.
يصفه جاره فارس محمد، بأنه كان محترما بين جيرانه وأصحابه، معروفا في محيطه بتدينه وأخلاقه الحميدة، ويرجع مشاركته في الفعاليات المختلفة، بأنها كانت دفاعا عن حقه وصوته، كحق شخصي، وعن دينه ووطنه كحق عام يشمل معه الجميع.
يحكي فارس مستغربا ومستنكرا في الوقت ذاته، كيف استقبلتهم قوات الشرطة والجيش والبلطجية حال خروجهم من المستشفى بالجنازة بعد، وكيف منعوهم من دخول المسجد للصلاة عليه، وضيقوا عليهم حتى دفنه.