عبد الرحمن البشبيشي.. أكمل طريقه للنهاية

“نزلت إلى الشارع كي أدافع عن خيار الناس واختيارهم كمبدأ، وليس لأمر آخر.. ارتضينا طريقا ولابد من إكماله لنهايته”.. كلمات قالها بطل قصتنا، خلال حديث سجله له أصدقاؤه عقب فض اعتصام رابعة العدوية، قدم نفسه فيه بصفة الشهيد.

عبد الرحمن محمد البشبيشي (24 سنة) من محافظة القاهرة، كان حديث التخرج من كلية دار العلوم، ويعتزم إكمال دراسته العليا لتحقيق طموحه بأن يصبح أستاذا في كليته، لكنه قضى شهيدا في المذبحة التي صادفت ذكرى حرب السادس من أكتوبر في 2013.

ولد عبد الرحمن في مدينة الرياض عام 1987 خلال عمل والده هناك، وظل فيها قرابة 9 أعوام، حيث عاد إلى وطنه في 1996، وكان استشهاده برصاصتين في البطن، خلال مسيرة بميدان رمسيس.

كان عبد الرحمن مهتما بقضايا الأمة والشأن العام منذ صغره، وانعكس ذلك في مواقف مختلفة، يحكي والده منها، حين استدعته إدارة مدرسته وهو طالب بالمرحلة الابتدائية لم يتجاوز الثامنة ليقرأ موضوع إنشاء كتبه عبد الرحمن، عبر فيه عن تطلعه بأن تقوم الدول الغنية بالبترول بتوزيعه مجانا على البلاد الإسلامية الفقرة.

تستذكر والدته سعاد محمد طفولته “الجميلة”، وتشير إلى أنه كان يحب الرسم ولعب كرة القدم، كما تلفت إلى أنه كان صاحب شخصية قوية ومستقلة منذ صغره، حيث كان من النوع الذي يحب اختيار حاجاته وألعابه بنفسه.

عرف كذلك بالأمانة، حيث كان الكثيرون يستودعون لديه أماناتهم، كما كانوا يأتمنونه على إيصال صدقاتهم وزكاتهم لمستحقيها، ويهتم بقضاء حاجة صاحب الحاجة، ويسعى في قضاء مصالحهم، تتذكر له والدته حديثه في الهاتف باهتمام لإتمام عملية ولد صغير، ابن رجل بسيط محتاج.

تؤكد الوالدة في حديثها بين الفينة والأخرى رضاها بأمر الله واعتزازاها باستشهاد ولدها، وسعادتها بتحقق أمله الذي طالما حدثها عنه وهو الشهادة، حتى حببها هي الأخرى فيها، وباتت تتمنى ذات المصير، لكن ما يحزنها أنه مات على يد مصري، وحين ترى أطفال العائلة يبحثون عنه في المناسبات ولا يجدونه.

كان كثير الحديث عن الشهادة والاستشهاد، وكان لا يريد أن يموت موتة عادية، وكان حسب والدته، يصرح بتمنيه أن يلقى الله وهو نقي، وكان الجيران يتحدثون عنه بأفضل حديث، ولا يتذكر له أحد حادثة أحزن فيها غيره، ولم يخاصم أحد، كما كان يسعى في إصلاح ذات البين.

تقول والدته، إنه حين عاد من فض اعتصام رابعة العدوية، لم يكن مصدقا أنه عاد سليما، وحين نزل في ذكرى أكتوبر، ألقى عليها السلام، وحين رأيت على الشاشة ما يحدث للمتظاهرين، أحسسنا أن أمرا ما سيحدث، حتى سمعنا بنبأ استشهاده.

كان يحب الحرية لنفسه ولغيرة، ومن تعبيراته المكررة، أريد أن نتنفس الحرية، حتى أنه كان عازما على أن تكون رسالته للماجستير حول الحرية.

كان ذا همة عالية، محبا للنشاط والحركة، وكانت معسكرات الكشافة من أكثر المحاضن التي تستهويه وتلبي جانبا كبيرا من اهتماماته، حيث كان يحب حياة الخلاء والمصايف رفقة أصدقائه الذين كان يحبهم ويحبونه.

يحكي والده عنه أه كان يتمنى الشهادة ولكنه لم يكن مستعدا للاعتقال والتعرض للتعذيب، وكان يحكي له في حزن كيف أن الرصاصة مرة إلى جواره وأصابت أحد أصدقائه ممن اصطفاهم الله للشهادة دونه.

ولم يتمالك الوالد نفسه وهو يستذكر عاطفة أحفاده من أخته غير الشقيقة تجاهه، وكيف أنهم لم يعودوا قادرين على زيارته منذ رحيل عبد الرحمن، ويقول في هذا السياق، الجميع ربما انشغل ونسي، إلا حفيدي لم ينسيا ولم يتجاوزا حتى الآن حزنهما عليه.

يتذكر الوالد ما وقع به من أثر لحظة سماعه خبر استشهاد عبد الرحمن، وكيف أنه لم يتمالك نفسه وانهار بشدة، وارتفع لديه السكر والضغط، ما أثر على العصب البصري لعينه اليسرى، وتسبب الأمر في إصابته بازدواج الرؤية، نتيجة الصدمة

أما شقيقته إكرام، التي كانت تصغره بعام، فتحكي بتأثر كيف أنهما كانا قريبين من بعضيهما لقرب أعمارهما، فقد كان يصحبها حين الذهاب إلى المدرسة، سواء حين كانا في السعودية وحتى بعد العودة إلى الوطن، كما تتذكر نشاطهما معا في مؤسسة “المنارة” لتعليم الصغار القرآن وأمورا دينية واجتماعية.

ورغم افتقادها الشديد له، إلا أنها تؤكد فرحها باستشهاده، خاصة وأنه طلب ذلك حال حدوثه، حيث قال لهم إذا استشهد افرحوا لي ولا يحزن على أحد.

فيما تشير شقيقته الصغرى لمياء إلى أنه كان حلالا للمشاكل، صاحب رأي سديد ورؤيا صائبة، وكان يعالج همومها بكل بساطة وسهولة.

أما شقيقه الأكبر محمد فيحكي كيف أن شقيقه عبد الرحمن منذ صغره كان جادا، فحينما كانوا يأخذون “المصروف” أو “العيدية” كان هو وباقي إخوته يصرفونها على رغباتهم، بينما كان هو الوحيد الذي “يحوش” ليعلموا لاحقا أنه كان ينفق ماله في أعمال الخير وشراء الكتب.

شارك عبد الرحمن في ثورة 25 يناير، وكان يرفض العنف، حتى وإن تعرض كغيره لإطلا للغاز والخرطوش، فلم يكن يحب أن يجابه ذلك بأي عنف، حتى إنه لم يلق “طوبة” عليهم، ويبرر ذلك بأنه يخشى أن يصيب عسكري لا يملك من أمره شيء.

كتب وصيته قبل أن يسافر لأداء العمرة في شهر فبراير من ذات العام الذي استشهد فيه، وكتب حينها أنه يشعر بأنها عمرته الأخرة وربما لا يعود منها ولأجل ذلك كتب الوصية.

في يوم استشهاده، خرج من بيته صائما، وكان آخر ما كتبه “اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا”، فيما يؤكد شقيقه محمد أن وصيته ومذكراته وأغراضه التي كان يرتبها، جميعها كانت تدل على أنه كان يتوقع هذه النهاية ويسعى لها.

يحكي صديقه محمد عن ساعته الأخيرة في رمضان، التي تسبق الإفطار، وكيف أنها كانت أهم ساعة في عمره، حيث كان يختل بنفسه، ولا يحدث أحدا غير ربه، وكان كذلك يلقي دروسا رمضانية، كما كان يحب الأذان، ويبكي رغما عنه وهو يؤديه.

فيما يذكر له صديقه أحمد حسونه، كيف أنه كان دائم التطلع لحدمة دينه ووطنه، ولا يحمل للدنيا هما ولا يعمل لها حسابا، ويراه قد صدق الله في سعيه فصدقه الله ورزقه الشهادة.

كان من آخر ما كتبه قبل استشهاده، وصية بالصبر والثبات والتوبة حيث كان يتوقع أن من سيشارك في تلك المسيرات سيكون أقرب إلى الموت مما كان عليه الحال في أيام سابقة، كما أوصى باستثمار الوقت فيما يخدم الحق، والتأهب لمواجهة المصاعب في سبيل ذلك

كانت جنازته حاشدة، وبكاه فيها الحاضرون، وظلوا يدعون له كثيرا، كما نظم الثوار وقفات متتالية أمام منزله، تفاعل معها أفراد أسرته