وكما أبت الثورة إلا أن يكون من الدماء الطاهرة التي سالت على أعتابها، دماء فتيات صرن رمزا للثورة وتضحياتها كسالي زهران وغيرها، أخذت ذكراها ذات النهج، ولم تمر في سنوات لاحقة إلا وقد سالت دماء فتيات أخرى، ليثقل ميزان الثورة وقدرها، ويزداد إجرام كارهيها وشانئوها.
سمية محمد عبد الله (20 سنة)، قتلت في الذكرى الثالثة لثورة يناير، برصاص قوات الأمن خلال مشاركتها في مسيرة يوم الجمعة 25 يناير 2014، بمدينة الإسكندرية.
كانت سمية طالبة في السنة الأولى من كلية الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر، وصدر قرار مجحف بفصلها لمشاركتها في الفعاليات الطلابية الرافضة للانقلاب وإصرارها على ذلك، ولم تحزن على ذلك وسألت الله أن يعوضها خيرا، فكانت الشهادة نعم العوض.
كانت سمية حافظة لكتاب الله، وعرفت بصوتها الندي في تلاوة آيات الله والإنشاد الديني، وكانت محبة لارتياد المساجد منذ حداثة سنها، وحسب أسرتها وذويها فقد كان لها حال خاص مع الله، كما كانت حياتها حافلة بالسعي في مصالح المحتاجين، وفي نصرة قضايا المظلومين.
تشربت سمية من والديها حب الوطن والبذل في سبيل نهضته، وآمنت الأسرة بثورة 25 يناير، وحق مصر وأهلها في العدالة والعيش بحرية، وعبرت الأسرة عن ذلك في جميع أحوالها، حتى بعد وفاة سمية.
شاركت سمية في جميع الفعاليات، خاصة التي تلت الانقلاب العسكري، وكان من أكثر ما تهتم به وتنادي إليه في حراكها، حقوق الشهداء والمعتقلين والمصابين، وعرفت بقوتها وشجاعتها وإقدامها، وكانت في الصفوف الأولى لأغلب المظاهرات التي تشارك فيه داخل الجامعة وخارجها.
كانت تشعر بدنو أجلها، لدرجة أنها طلبت من والديها أن يسامحاها وأخبرت والدتها قبل مشاركتها أنها تشعر أنها لن تعود إلى المنزل مرة أخرى، أرادت أمها أن تمنعها خوفا عليها، لكنها قالت لها إن الحذر لا يمنع قدر الله.
كتبت الشهيدة وصيتها، وسطرت فيها كلمات مؤثرة، تضمنت بث عاطفتها تجاه والديها وإخوتها، ومما كتبه فيها، أنها
فضلت عيش الأحرار على ذل وهوان عيش العبيد، كما أوصت أشقاءها وأحبابها بالثبات وعدم اليأس والاستسلام وألا يتركوا الدماء تسيل هدرا، أو الحزن يثنيهم عن الاستمرار في طريق الحق.
كانت سميه فتاة بسيطة ومتواضعة رغم ملكاتها الفريدة، لا تفارق الابتسامة محياها، وشوهدت في المسيرة التي كتب لها فيها الشهادة تضحك مستبشرة، تلقي السلام على كل من تلقاه من النساء، وتوزع في نشاط كمامات حماية من الغاز المسيل للدموع، وما إن بدأ استهداف المسيرة حتى اختفت، قبل أن ترى صريعة في دمائها.
أصابت سمية رصاصة غادرة في ظهرها خرجت من بطنها، وقضت شهيدة في لحظتها، قبل أن يجتمع عليها الناس، ويفاجأ والدها بها، والذي هرع إلى الحشد قصد المساعدة حال الاحتياج إليها.
يحكي والدها الذي أكد عدم ممانعته مشاركتها في المظاهرات بالرغم من خوفه الشديد عليها، أنه نزل في يوم القدر إلى صلاة الجمعة، وبينما هو ينتظر إقامة الصلاة في المسجد، سمع صوت الرصاص، فخرج للمساعدة، فوجد جثة ملقاة على الأرض، يحوطها الناس، وعندما اقترب وجدها ابنته.
أخذ الأب المكلوم جثة ابنته إلى المشرحة، وظل طول اليوم ينتظر قرار النيابة، وفي اليوم التالي استدعي إليها لأخذ أقواله، ومن يتهمه بقتل ابنته، فكان الرد في ثبات ودون تردد، اتهامه النظام القائم ورموزه، ومنهم وزيري الدفاع والداخلية، إضافة إلى قيادات الأمن في الإسكندرية.
أما والدتها، فرغم صدمتها بالخبر، إلا أنها تلقته بصبر ورضا، وتمالكت نفسها وقالت: “إن لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها، أنا مؤمنة بقضاء الله”.
تركت سمية فراغا في حياة من عرفها من زميلاتها وصديقاتها، حتى مدرسوها عبروا عن فقدهم، فقد كانت مقبلة على الحياة، حنونة متسامحة، وصفتها إحدى قريباتها: “سمية كانت فراشة في البيت.. تحوم حولنا وكانت لا تبغض أحدا وليس في صدرها مساحة لحقد على أحد”.
شهدت جنازتها مشاركة حاشدة من الرجال والنساء، وظلت الهتافات الغاضبة تملأ جنبات مسارها بشوارع الإسكندرية في ذلك اليوم، وتفاعل معها الجميع، وعلا هتاف “في الجنة يا سمية”، وظل المشيعون يدعون لها بتأثر وإخلاص على قبرها.
نظم لها زملاؤها وقفات في الجامعة وأمام منزلها، ورثاها العشرات من أحبابها، وسجل أحد المطربين الشعبيين أغنية لتأثره باستشهادها.