محمود الكردي.. شهيد ذكرى الثورة الثالثة
لا تنحصر قائمة شهداء ثورة الخامس والعشرين من يناير، فيمن سقطوا بأيامها الأولى في عام 2011، فذكراها المتتالية ولواحقها، شهدت سقوط شهداء آخرين لكل منهم قصة وحكاية، وكأن الثورة لا زالت بحاجة لدماء تروي شجرتها حتى يتحقق حلم أصحابها والداعين إليها.
محمود الكردي (28 سنة) ضمن من رووا شجرة الثورة بدمائهم العطرة في ذكراها الثالثة، حينما أصيب بطلق ناري في عينه، خلال مظاهرة رافضة للانقلاب العسكري بمنطقة المطرية في القاهرة.
خرج محمود بميدان المطرية، ضمن الآلاف ممن قصدوا تجديد العهد مع ثورة يناير، والتأكيد على أنهم سيظلون أوفياء لمطالبها النبيلة، ويحيون رافضين للفساد والظلم، وأنه مهما طال العهد فلن يقبلوا بأن يسرق العسكر أحلامهم وتطلعاتهم المشروعة بالحرية والعدالة الاجتماعية.
كان محمود مواليد العاشر من أغسطس/آب 1986 وكان أصغر إخوته الأربعة، توفيت والدته وهو في السادسة عشر من العمر، وتزوج بعد تخرجه وعمله، ورزق بطلفين، إسلام، وسلسبيل الحياة، التي بذر بذرتها ورحل، وجاءت إلى الحياة بعد استشهاده بـ 9 أشهر.
تخرج محمود من كلية العلوم جامعة عين شمس، وعمل لفترة في أعمال تتناسب مع تخصصه، إلا أنه بعد قرابة العامين، أحب سلوك مسار التدريس، وهو المجال الذي شعر بأنه الأقرب لنفسه، كيف لا وقد كان محبا للأطفال وهم بادلوه الشعور، لأسلوبه الآسر معهم.
أحب محمود عمله في التدريس وأبدع فيه أيما إبداع، ورغم أن دخله منه كان متواضعا في مقابل ما كان يحصله من أعمال أخرى، إلا أنه أصر على الاستمرار فيه، وتقديم نموذج فريد في التعامل مع طلبته وإيصال المادة العلمية إليهم.
تروي زوجته قصة استشهاده، وما كان في لحظاته الأخيرة حيث ظل يردد الشهادة كثيرا وهم يحاولون إسعافه، حتى ارتقى في اللحظة التي كتبها الله له، ورغم أن لحظة الإصابة كانت بعد العصر، فدمه ظل يسيل برائحة مسك ندية حتى دخل المشرحة عند الفجر، ووجهه كالنائم في سكينة.
كان يدعوا بالشهادة، لكن كان في ذات الوقت، يدعوا الله ألا يرزقها حتى يعمل عملا لدينه، لم يسبقه إليه أحد.. تقول زوجته، أول مرة يطلب مني فيها الدعاء بالشهادة كانت قبل استشهاده بساعة.
كان ممن أتقنوا النصح بحكمة والأمر بالمعروف، وكان لا يسكت على منكر يرتكب في حضرته أو أمام عينه، ويبادر مهما كان الحال إلى النصح وإنكار المنكر، وفي أغلب الأحوال يترك الأثر الإيجابي فيمن يتلقى نصحه، وربما جهل عليه جاهل، فلا ينزل إلى مستوى الاشتباك أو التدني في الرد، فقد كان عفيف اللسان.
تواترت روايات أصدقائه عن محاسن خلقه، فهو حسب أحدهم، من أرق الناس أفئدة وأطيبهم قلبا، لم ير غاضبا لنفسه، ومن تعامل معه أحبه، وكان يحادثه كثيرا عن شوقه للشهادة، ورغبته فيها.
كان حافظا لكتاب الله، كثير القراءة له، كما كان كثير الصيام والقيام، وخلال مشاركته في اعتصام النهضة، ورغم ما كان يبذله من مجهود خلال النهار، من خدمة وأعمال ميدانية، إذا نام الناس بالليل، قام للصلاة، وكان إذا دعا الله بكى وأبكى من حوله.
كان هينا لينا قريبا سهلا، آسرا لمن يتعامل معه، لا يمكن أحدا من الغضب منه لدماثه خلقه، يحمل معه الحلوى ويتودد لمحدثه بمنحها له مكافأة على أي أمر ولو كان صغيرا، وربما كانت المكافأة لمجرد اللقاء.
مما عرف عنه، حبه للصدقة في السر والخفاء، وسعيه في خدمة الآخرين، كما كان يحب إكرام الأيتام وزيارتهم، ومما عرف به كذلك قبوله للنصح ورجوعه للحق، واتهامه لنفسه بالتقصير، ولا يأنف أن يعتذر لمن أخطأ في حقه.
تجاوز عطفه ورأفته البشر، فحتى الحيوانات حظيت بجانب من تلك السمات، ومن ثم كان غيابه مؤثرا عليهم كذلك، فشقيق زوجته يحكي عن قطة كان يتعهدها بالإطعام، ظلت بعدها تتردد على المكان الذي كان يضع لها فيه صحن اللبن أمام منزله.
من أعماله الخفية التي عرفت عنه بعد وفاته، أنه كان يذهب إلى الكلية التي تخرج منها بين الفينة والأخرى بعد تخرجه، حتى لا يقطع عادة اعتادها بتقديم المساعدة لعمال وعاملات ممن تواضعت أحوالهم المعيشية، وكان يفعل ذلك بالسر.
بكى محمود الكثير من أصحابه ومحبيه، وترك أثرا بالغا فيمن حوله، وشهدت جنازته التي كانت في ساعات الليل الحالكة مشاركة جموع غفيرة، ظلوا يدعون له بحرقة وألم، ويسألون الله أن يتقبله في الشهداء.