بكاه الأطفال قبل الشباب والشيوخ، ونعته المساجد مع الطرقات، ولم يسمع أحد نبأ استشهاده ممن عرفه إلا وأظهر الحزن الشديد، كيف لا وأثره في كل موضع مر به أو مسجد صلى فيه، أو صاحب رافقه ولو لبرهة من الزمن.
مصطفى أحمد حمروش (28 سنة)، العالم الشاب كما يراه أقرانه ومعلموه، وصاحب القلب الذكي والفؤاد النقي واللسان الذاكر، كما يشهد له إخوته وذووه، ومعلم الناس الخير كما يصفه جيرانه ومحبوه.
في ذكرى ميلاده، كانت لحظة استشهاده، حيث طالته رصاصة أطلقتها قوات الأمن المصري، في الأول من يناير/كانون الثاني 2014، وهو مشارك في مظاهرة، رافضة للانقلاب العسكري بمنطقة جليم، في مدينة الإسكندرية، واخترقت إحدى جانبيه لتخرج من الجانب الآخر، وكتب سبب وفاته في شهادتها “طلق ناري” ليلحق بالمئات ممن سبقوه على ذات الدرب.
تخرج مصطفى حمروش من كلية أصول الدين جامعة الأزهر الشريف، وعمل بلجنة الإغاثة والطوارئ، في اتحاد الأطباء العرب، وكان له نشاط ملحوظ في إيصال المساعدات لمناطق الكوارث والدول المنكوبة، ومنحه سفير السودان بمصر شهادة تقدير لجهوده في وصول إمدادات لمحتاجين من أهل بلده.
إلا أن ولعه بطلب العلم الشرعي، ورغبته الملحة في المضي قدما على درب العلماء أملا في بلوغ مراتبهم، دفعه لترك عمله في اتحاد الأطباء العرب، والالتحاق ب”معهد بناء” لإعداد العلماء، واختير ضمن 30 طالبا من بين مئات تقدموا للانتساب لهذا المعهد الذي تأسس عقب ثورة يناير.
أثنى عليه عميد المعهد الدكتور صلاح سلطان، أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، كما نعاه وكيل المعهد الأستاذ الدكتور وصفي عاشور، واصفا إياه بالعالم الداعية المربي، والهادئ العاقل الوقور المتزن الباسم غير المتعجل ولا المندفع.
وتولى رئاسة اتحاد طلاب المعهد، وذكر بيان أصدره المعهد عقب قتله : “لم نرى منه إلا كل حب وأخوة لزملائه، يؤثرهم على نفسه، ويتحمل منهم وعنهم مالا يطاق، فقد كان هدفه أن يكون عالما مجتهدا يخدم الأمة في قضاياها المعاصرة فهو العالم الرباني التقي النقي.. وكان قدوة في أعماله وأسوة في أخلاقه”.
أتم حفظ كتاب الله في سن مبكرة، وعمل في تحفيظه للأشبال وصغار السن منذ كان في الخامسة عشر من عمره، كما كان خطيبا مفوها، ومارس الخطابة في عدد من مساجد منطقته في الإسكندرية، واشتهر بأخلاقه الحسنة، وكان -حسب بعض أصدقائه- حريص على أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم، في العيش بالقرآن، والعمل بما فيه من تعاليم وأحكام.
يحكي والده عن يوم استشهاده، وكيف أنه التقاه صباح ذلك اليوم عند شقته التي كان يتم تجهيزها لزواجه، وحين سأله إلى أين هو ذاهب، ورأى الخوف والقلق في وجهه (الأب) أجابه مصطفى بأنه في طريقه لقضاء حاجة، طالبا منه ألا يقلق عليه.
يضيف الأب، ابني مصطفى لم يكن يخفي عني وجهته أيا كانت، ولا يكذب إطلاقا في الإجابة على أي أسئلة، لكن لحرصه على ألا يقلقني، وارى لكنه لم يكذب، لافتا إلى أنه رأى في ذلك اليوم علامات النور في وجهه، الأمر الذي استبشر به بعد أن علم بنبأ استشهاده.
ورغم لوعتها الشديدة، إلا أن والدته تؤكد أن قلبها المنفطر عليه، مطمئن لما صار إليه، وتقول ببساطة، حزني لفراقه، لكنه مات شهيدا، ورغم أنني لا أقرأ ولا أكتب، لكني ربيته وإخوته على الدين والخلق، ولذا أنا مطمئنة.
فيما يقول شقيقه طاهر، إن مصطفى لم يكن طالب علم شرعي عادي، بل كان نابغة ومثقفا واعيا صاحب رسالة، يعمل بما يتعلمه، لافتا إلى أنه كان يستفتيه ويستشيره في شؤونه المختلفة، ويجد عنده الرأي السديد والمشورة الحسنة.
وخلال تقديمه لأسرة مصطفى حمروش، لم يتمالك مذيع قناة الجزيرة مباشر أيمن عزام، نفسه خلال حلقة برنامج “أحياء في الذاكرة” بعد سماعه تقريرا عن مصطفى، ومنعه بكاءه من الحديث لدقائق، الأمر الذي اضطر القناة للخروج بفاصل حتى يهدأ.
يتذكر صديقه عمرو نزيه، كيف كان يتعهد أصحابه في الاعتكاف، حيث يحرص على عدم تفويتهم ما قد يتساهل فيه أغلب المعتكفون، من المكوث بعد الفجر حتى الشروق، ويحرص على خدمتهم، ويستحثهم على الاجتهاد في العبادة، دون شدة وعنت.
فيما يقول صديقه أحمد خيري، إن مصطفى كان من خير الناس خلاقا وعلما، ومن يعرفه لا يستغرب اصطفاءه للشهادة، مشيرا إلى أن هدفه في الحياة أن يكون من العلماء البارعين في العلم الشرعي.
كانت جنازة مصطفى مهيبة حزينة، حيث شيعه الآلاف من أهالي الإسكندرية، من مسجد التقوى بمنطقة الساعة شرق الإسكندرية، إلى مثواه الأخير بمقابر شرق المدينة، وحمل المشاركون لافتات حملت عبارات رافضة للانقلاب العسكري، ورددوا هتافات منها “لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله”، “يا شهيد نام وارتاح واحنا نحاكم السفاح”.