ترك طارق الوظيفة في شركة البترول الأجنبية، وترك فرصة السفر لأمريكا، التي كان قد تقديم للحصول على تأشيرتها قبل فترة قصيرة، وترك رانيا والبنتين، مريم وسارة في عمر الستة سنوات والستة أشهر، ونزل لميدان التحرير. لم تكن مشكلة طارق في “العيش”، فالرجل كان يعرف كيف يكسب لقمته بكد وارتياح، لكنه كان يعرف جيدًا معنى أن يحرم غيره كسبها في بلد يحرم الجميع “الحرية” و”العدالة الاجتماعية”. طارق عبد اللطيف محمد الأقطش، الذي قتل في ليلة الجمعة، جمعة الغضب عن 36 عام. كان طارق يعمل مهندس بترول في شركة Baker Hages ولم ينضم أبدًا لأي حزب سياسي ولم يكن له دافع للنزول للمظاهرات سوى حبه لمصر. تقول رانيا زوجته أنه كان يتوقع أن يتم حبسه وضربه هو وأصدقاؤه “لحد ما نتعجن” على حد قوله، لكنه لم يتخيل أبدًا أنه سيموت برصاص حي أطلقه من قناص. خرج طارق استجابة لنداء النزول ضد الداخلية في يوم عيدها، 25 يناير وتقول أمه أنه لم يخبرهم بداية بانضمامه للمتظاهرين. كان طارق متظاهرًا سلميًا كالآلاف من الشباب ممن يعانون من التضييق السياسي وعدم الشعور بالديموقراطية وأملًا في حياة أفضل، وسعيًا لمحاربة الفساد، ولم يدرك طارق أنه سيدفع حياته ثمنًا لهذي التطلعات. لم يختلف أحد على نقاء سيرته ولا على حبه الشديد لأسرته ووالديه، وعلى مدى تطلعه لتأمين حياة بنتيه في بيئة كريمة عادلة. ولكن ما أكدت عليه رانيا، أرملته أن البنتين لن يملكا سوى الفخر بأبيهما الذي صارت دمائه هو وكل شهداء الثورة النبيلة بذرة أولى في بناء لابد له وأن يقوم. كانت رانيا وبعد عامين من فقدها لطارق لاتزال تحظى بالأمل، في خطاب أرسلته للكاتب بلال فضل في الذكري الثانية للثورة كان مصممة على أن حق زوجها سيعود حتمًا. “أنا لن أترك حق زوجي في ثورة آمن بها وتحرك لها ومات في سبيلها وهو المسالم الكاره للسياسة بكل أشكالها، ولكنه رأى في تلك الثورة مستقبل بلاده وغد بناته.. لا لن أغفر أو أسامح… ولتخافوا من دعوة زوجة مظلومة في عيد زواجها وهي ترتدي الأسود وتبكي من وجع قلبها والخوف من غد غير معلوم و ثورة تُسرق وهي لا تملك أن تتركها لأنها دفعت ثمنها مقدما غاليا جدا” يناير 2013
40 يومًا من الاختفاء
انقطعت الاتصالات بطارق في ليلة جمعة الغضب، ولم يعرف عنه أهله أي شيء. بدأوا رحلة مضنية في دوائر البحث عنه لشهر ونصف بعدها، في وقت لم يكن الاختفاء القسري معهودًا فيه كالآن، عاشت الأسى الحقيقي في أيام الانتظار والأمل بين أن يكون لازال حيًا وتحقق معه إحدى الجهات السيادية أو أن يكون فُقد للأبد. وتعلقوا بالأمل وفقدوه مرات ومرات ولم تنقذهم وتنقذ جثمان طارق سوى المصادفة.
ففي الثامن من مارس 2011 ذهب لأهل طارق شخص وأخبرهم أن جثمانه موجودة في مشرحة زينهم وأنه تأكد من هويته عندما رأي بطاقته الشخصية بنفسه. كان هذا الرجل يبحث عن أخيه واشتبه في طارق لتغير ملامحه بعد طول المدة، ولكن لأن بطاقته كانت لا تزال في جيبه، فاستطاع الرجل أن يتأكد من الاسم وذهب للعنوان مباشرة. أيامًا طوال بين الثامن والعشرين من يناير والثامن من مارس قضتها أسرة طارق في البحث. يقول أحمد أمين ابن عمه لطارق أنهم تحركوا “كعب داير” بين المستشفيات ومشرحة زينهم ومقار أمن الدولة والاطلاع على الكشوف الخاصة بالمتوفين والمصابين أكثر من مرة وشهدوا بأنفسهم على الإهمال وعدم صحة الكشوف وعدم التوثيق والدليل أنهم في النهاية وجدوا طارق في المشرحة، بعد شهر قضاه في مشرحة القصر العيني التي قد ذهبوا إليها مرات عديدة بالفعل أثناء البحث ولم يستدلوا على شيء. يضيف أحمد أنهم قد تلقوا -بعد أسبوع من اختفاء الشهيد-، خبرًا عن وصول 160 جثة لمشرحة زينهم، الأمر الذي دفعهم للتوجه على الفور ليشاهدوا جثثًا متراصة فوق بعضها البعض ملفوف كل منها ببطانية أو كيس بلاستيك في مشهد بشع كالأفران البلدية، ولم يكن طارق من بينهم. يشرح أحمد الصعوبات التي واجهوها من مضايقات أثناء السؤال المتكررعن طارق، والصعوبة أحيانًا للوصول لبوابات بعض مقار أمن الدولة، وكيف تحولت حياتهم إلى جحيم حتى حدثت الصدفة التي وضعت حدًا للقلق في حياتهم وأسدلت الستار الأسود على المشهد الذي طال وكأنه لن ينتهي، أحمد شهيدًا. لم تكن الدولة رحيمة بطارق ولا مرة، لا عندما أمرت القناصة بالنزول لصيد أرواح الشباب كما العصافير، ولا عندما تعمدت الإهمال وعدم الاعتناء بمصير الرجل ومن ثم أسرته. تواصل أهل طارق مع بعض المسئولين أثناء البحث وتلقوا إجابات من شأنها أن تهدأ من روعهم عندما طالبوهم بعدم التحدث بشأنه مجددًا في وسائل الإعلام حتى لا يتم إيذاؤه. بل لقد وصل الاستخفاف بالأمر إلى أنهم قد تلقوا رصدًا بخط سير تحركات طارق كاملة من وقت القبض عليه وانتقاله إلى أمن الدولة ثم وجوده في السجن الحربي؛ الأمر الذي تبين عدم صحته لاحقاً. كل هذه المتاهة الكبيرة التي عاشها أهل طارق وجثمان الرجل موجود في المشرحة والبطاقة في جيبه، مم يدلل على كيف ترى الدولة فعلًا مواطنيها؛ لا شيء!
مرعام جديد، كان الثالث عندما طلب بلال فضل من رانيا مرة أخرى أن تكتب مرة أخري، في أيام قد باتت فيها الثورة شيئًا بعيدًا ومحاسبة المتهمين أمرًا من دروب الخيال.
“حاولت جاهدة أن أكتب لك لأعبر عما أشعر به عما أراه أو حتى عن أمل أتمسك به، ولم أجد لديّ من الكلمات ما ينصفني، فاعذرني وسامحني فأفكاري مشوشة ومشاعر حائرة غائمة. أتذكر في صمت وأقارن أمسًا ليس ببعيد قد يبدو مثل اليوم ولكنه مختلف. أتذكر ألم الفراق وأتخيل أوجاع الآخرين التي يوضع أولادها كل يوم في خانة الشهداء.مر عامان ولم يتغير شيء، نفس المشاهد، نفس الأصوات المفزعة، نفس القلق والرعب من صباح قد لا يأتي بخير.” يناير 2014