“ليست العبرة بمن سبق، إنما العبرة بمن صدق”.. “العبرة بكمال النهايات وليست بنقص البدايات” مقولتان كثيرا ما كانتا حاضرتين في سياقات نظرية، إلا أن حضورهما من خلال نموذج يكون أكثر وقعا وأثرا، ومنها حكاية بطل قصتنا.
مصطفى حمدي حشيش (39 سنة) من مواليد عام 1974 بمدينة حوش عيسى التابعة لمحافظة البحيرة (دلتا النيل) وكان يعمل مندوب مبيعات لإحدى الشركات، ولديه شقيقان محمد وبليغ.
كان مصطفى متزوجا ورزقه الله بابن واحد، اسمه عبد الرحمن كان يبلغ من العمر 6 سنوات، حين قتل برصاص الأمن خلال وقفة بحوش عيسى، بالتزامن مع مذبحة فض اعتصام رابعة العدوية في الرابع عشر من أغسطس/آب 2013.
لم يكن مصطفى لديه أي انتماءات سياسية أو حزبية، إلا أنه كان منحازا لما يراه حقا، ولا يستنكف أن يغير موقفه حين تكون الأمور أوضح، ويظهر له ما لم يكن ظاهرا في السابق، فبوصلته دائما متجهة نحو نصرة الحق متى ما عرفه واقتنع به.
عرف مصطفى بين أهله وأقرانه وجيرانه بطبعه الهادئ وقلبه الطيب، كما كان متميزا ببره بوالديه وحبه الخير لكل الناس، وتوافق عدد من المتحدثين عنه على أنه كان مسالما لحد ملحوظ، حريصا على مشاعر الآخرين.
كان مصطفى محبا للحياة مقبلا عليها، مع موقف ثابت في دعم الحق مهما كانت التبعات، وكان من هواياته صيد السمك، يقضي فيه وقت فراغه سواء في أيام إجازاته أو بعد عمله.
عدم انتماء مصطفى لأي تنظيم كان انعكاسا لحرصه الشديد على أن يكون ذا رأي مستقل نابع عن قناعة شخصية كاملة بما يأخذ به، ومن ثم يتخذ كل الوسائل المتاحة في الدفاع عنه.
تعددت أوجه البلاء الذي عاشته أسرة مصطفى، فوالده لم يتحمل فراقه ومات كمدا بعد رحيله بفترة قصيرة، ووالدته أصيبت بجلطات في يديها أدت في النهاية للإصابة بشلل نصفي، وشقيقيه كانا ملاحقين أمنيا، وتم القبض على شقيقه محمد في مارس/آذار 2020.
الانحياز للحق كما كان يراه، لم يتعارض مع معارضته للرئيس المعزول محمد مرسي وحزبه وجماعته، والتي كان ينتمي لها أحد أشقائه، لكنه كان خلافا حول الأولى، فلم يسقه ذلك الخلاف للوقوف مع العسكر في خندق واحد، فهو ممن دعموا ثورة 25 يناير 2011، وكان له حضورا بها منذ أيامها الأولى.
لا تمل والدته الحاجة خضراء من ترديد “حسبنا الله ونعم الوكيل”، فمع كل سؤال أو حديث عن فلذة كبدها الذي فجعت به، يزدحم الدمع في مقلتيها، وينعقد لسانها ثم تنطلق بهذا الدعاء على من قتلوا ابنها.
حاولوا في البداية إخفاء الخبر عنها، لكنها بمجرد أن سمعت صوت صراخ وبكاء خارج بيتها حتى تسرب إليها شعور غير كاذب بأن سبب هذا البكاء مصاب لحق بابنها مصطفى، حتى تأكدت من الخبر بعد أن أخبروها به.
كان وقع الخبر عليها شديدا رغم توقعها للأمر فقد كان مصطفى “غال عليها جدا” كما تقول، وتسبب معرفتها بخبر استشهاده في أن تصاب بجلطتين في أحد ذراعيها، أديا في نهاية الأمر لإصابتها بشلل نصفي، وزادت فجيعتها حين لحق زوجها بابنه والذي لم يتحمل فراق ابنه بهذه الطريقة.
لكنها ما فتئت في مناسبات لاحقة، تدعو الشباب للخروج والمطالبة بعودة حق ابنها وباقي من قضوا في فض رابعة وغيرها من المشاهد.
يقول شقيقه الأكبر محمد، إن الله اصطفى مصطفى لنيل الشهادة خلال دفاعه عن الحق والشرعية والتي ربما كان مظنة الجميع أنها ربما تصيب غيره، فشقيقاه كانا قد سبقاه في اتخاذ موقف داعم للشرعية، ومن ثم كان التوقع أن يكون أحدهما من سيسقط في هذه المواجهة.
يتابع محمد في هذا السياق موضحا، مصطفى لم يكن لديه أي انتماء سياسي، وكان له موقف معارض للدكتور مرسي في سنة رئاسته، كما أنه كان معارضا لجماعة الإخوان المسلمين، إلا أنه ومع وقوع الانقلاب العسكري، انحاز للفئة المدافعة عن الشرعية، وكان يدعو غيره للاصطفاف ضد الانقلاب العسكري.
ومن ثم يحسب محمد، أن شقيقه مصطفى كان أصدق موقفا وأصفى نية، لذا وقع عليه الاختيار لنيل الشهادة التي تمنوها جميعا، فيما يرى شقيقه بليغ أن بره بوالديه وسر خفي بينه وبين الله، كانا وراء اختياره للشهادة.
يستذكر صديقه المقرب، أحمد محمود، كيف أنه ليلة مقتله، كان يجلسان سويا بأحد المقاهي، ومصطفى يتحدث في حماسة لكل من يلقاه يدعوه للخروج نصرة للديمقراطية والشرعية، ويقول في عزم وحزم، “من لديه كرامة فلابد أن يكون له موقف رافض للانقلاب”.
يعود أحمد ويؤكد على ما ذكره غيره من أن مصطفى لم يكن ينتمي لأي تنظيم، إلا أنه كان محبا لبلده، حريصا على مستقبلها، وكان مع حماسته في دعوة غيره لما يراه صوابا، هادئا ملتزما أدب الحوار، مسالما في جميع تفاعلاته مع الآخرين.
خرج مصطفى في اليوم الذي صادف فض اعتصامي رابعة والنهضة، وشارك في وقفة حاشدة لأنصار الشرعية في مدينته حوش عيسى، وأصيب برصاصة في جانبه، استقرت في الكبد، ليدخل المستشفى ويعاني إهمالا متعمدا في إسعافه، وبعد ساعتين ونصف، فاضت روحه إلى بارئها.
كانت جنازته مهيبة حاشدة، شارك فيها الآلاف، وظلوا يهتفون ضد الانقلاب والعسكر، ويؤكدون على وفائهم لدم مصطفى وغيره من ضحايا الانقلاب، واستمرارهم حتى أخذ حقه، كما ظل مصطفى في ذاكرة أهل مدينته، يحيون ذكراه ويهتفون لدمه في المناسبات المختلفة.