على عتبات جامع عمر مكر الشهير بميدان التحرير، وبينما يتهيأ بطل قصتنا للدخول إليه وأداء صلاة الفجر، بعد يوم ثقيل من أيام الثورة الذي شهد مواجهات مع قوات الأمن بالميدان، تسبق رصاصة الغدر خطواته، وتجد سبيلها إلى رقبته.
محمد ميلاد (33 عاما) الشهير بـ”حيرم”، كان يعمل مهندسا للري، وهو أحد الشباب المخلصين للثورة، والدائمي الحضور بميدانها منذ اندلاع شرارتها الأولى رغم عدم انتمائه لأي حزب سياسي، وزهده في الانضمام للحركات الشبابية والثورية المنتشرة بالميدان، واستشهد في أحداث مجلس الوزراء.
فجر التاسع عشر من ديسمبر/كانون أول 2011، وبينما كان محمد يستعد لدخول مسجد عمر مكرم، بعد أن قضى ساعاته السابقة في الدفاع عن شباب وفتيات الثورة بالميدان، وحمل العشرات من المصابين حتى طال قميصه شيء من دمائهم، كان هو الآخر على موعد مع الشهادة.
يحكي شقيقه حسين، عن اللحظات الأخيرة لأخيه الأكبر منه، حيث كان في رفقته، ويقول إن محمد قام بإنقاذ فتاتين من بين يدي العسكر، وهو الأمر الذي أغاظهم فاستهدفه قناصهم وهو يهم بدخول الجامع ويسبق ذلك بمحاولة إزالة أثر دم المصابين مع على ملابسه.
أصابت الرصاصة رقبة محمد، واخترقتها لتصل إلى عموده الفقري وتقطع الحبل الشوكي، إلا أنه لم يمت في لحظتها وظل في وعيه يوصي شقيقه بالثبات ويردد الشهادتين.
حمله شقيقه حسين وبعض من أصدقائه إلى مستشفى القصر العيني القريب، وحسب رواية شقيقه فقد ظل أكثر من 5 ساعات دون أن يتم إسعافه، وفي نهاية الأمر، قال الأطباء المتواجدين إنهم لن يستطيعوا التعامل مع حالته، ما اضطر شقيقه إلى أخذه لمستشفى آخر.
نقل حيرم إلى مستشفى المعادي العسكري، ولكن بعد أن ساءت حالته، وهناك جاءت لحظة القدر، وانتهى الأمر بأن خرج التقرير الطبي أن سبب الوفاة “نزلة معوية حادة”، فيما أصرت إدارة المستشفى أن يوقع شقيقه على محضر مكتوب فيه أن وفاته ناتجة عن “ادعاء بالإصابة بطلق ناري” لاستلام جثمانه.
ترك استشهاد محمد ميلاد في ذلك اليوم، الذي سبق ذكرى ميلاده بيوم، أثرا عميقا في أسرته ومعارفه ورفقاء الميدان، كيف لا وهو أحد الشباب الذين عرفوا بإخلاصهم الشديد للثورة وفعالياتها، والتي لم يفوت أي مشهد منها منذ يومها الأول في الخامس والعشرين من يناير.
وكان لحيرم رسالة قوية وجهها من ميدان التحرير قبل أيام من تنحي الرئيس المخلوع حسني مبارك، تحدى فيها كل من كال له ولأبناء الثورة أن يثبتوا أيا من تلك الاتهامات، وأكد فيها ثقته بنجاح الثورة، والتحاق كل من عارضها بركبها، وقد كان.
قبل يوم استشهاد، حرص محمد على مهاتفة أفراد عائلته، وعدد من أصدقائه، وسلم عليهم وختم حديثه معهم بـ “لا إله إلا الله” كما هي عادة بعض المصريين، وكأنه كان يشعر بدنو الأجل كما أفاد شقيقه.
خلال الساعات الأخيرة لحيرم، والتي كان وعيه فيها حاضرا بعد الإصابة، حرص محمد على تثبيت شقيقه وأصدقائه، وقال لشقيقه، “أريدك أن تكون رجلا وتكمل من بعدي” ثم وجه حديثه لرفقاء الميدان بالقول “احموا الميدان”.
ولعل هذا الثبات والوعي وعدم الجزع عند الموت كان سببا في صدمة شقيقه وأصدقائه حين علموا بأنه قد مات، ولم يعد بينهم.
شارك في جنازته الآلاف من أبناء مدينته كوم حمادة، في مشهد جنائزي مهيب، حيث دفن في مقابر الأسرة، وبكاه أهله وأصحابه، وجمع من شركاء الميدان الذين لم يتأخروا عن مشهد وداعه، وكذلك عدد غير قليل من شباب المدينة الذين كانوا يحرصون على مجالسته والاستفادة من ثقافته واطلاعه.
وفور انتهاء الجنازة، أقام المشيعون مظاهرة حاشدة جابت شوارع المدينة، ورددوا هتافات مطالبة بحق الشهداء والقصاص ممن قتلهم، ومنددة بانتهاكات المجلس العسكري الذي كان في صدارة المشهد حينها، وتخاذله عن مطالب الثورة، كما طالبوا بسرعة إنهاء حكم العسكر وتسليم الحكم لسلطة مدنية.
ظلت والدته تبكيه شهورا، كيف لا وهو أكثر أبنائها حنانا عليها، لكنها كانت تجد سلواها في رفقائه، والذين كانوا يقومون بين الحين والآخر بزيارتها والاطمئنان عليها.
أحيى أشقاء محمد وعدد من أصحابه ذكراه بمنزل الأسرة في السنة التالية، وقاموا بتلاوة ختمة لكتاب الله وإهداء ثوابها إليه، والدعاء بأن يتغمده الله بواسع الرحمة ويتقبله في الشهداء