لا يشفع لك أن تشارك النظام في مصر رفضه لخصمه السياسي، طالما لم تقدم فروض الولاء والطاعة له وتقر بشرعيته رغم كونه جاء نتاج انقلاب عسكري، فأنت بإعلانك عدم القبول بتلك الشرعية، مستحق للسحق والرصاص، كما الحال مع بطل قصتنا.
محمد فخر الدين (29 عاما) من سكان حي حدائق الزيتون بمحافظة القاهرة حيث نشأ ضمن أسرة مكونة من 6 أفراد، والديه وشقيقه الأصغر محمود وشقيقتيه الكبرى مها والصغرى مي. كان محباً لأسرته وخاصة جدته التي كانت أوشكت أن تتم التسعين من العمر وكان يسعى لجمع شمل أسرته الكبيرة في هذه المناسبة كما قالت ابنه عمته في نعيها له بعد وفاته. وتقول ابنة عمته عزة:”أشهد الله يا “محمد” أنك كنت نعم الأخ والصديق والقريب ..لم تكن بالنسبة لأخى “أحمد” شخص تربطك به قرابة فقط، كنت بالنسبة له الصديق المعين له فى الشدائد، الأخ الناصح له بكل حب فى اى وقت، والقريب الذى كنت أقرب اليه من اى شخص أخر.”
كان محمد يعمل مديرا بشركة مرسيدس في مصر، والتحق بالدراسات العليا في الأكاديمية البحرية، ورغم تفوقه وتميزه الحياتي إلا أن ذلك لم يمنعه من الاهتمام بأحوال وطنه، شارك في ثورة يناير، ورغم عدم انشغاله الشديد في عمله، لم يستطع أن يصمد وهو يرى الدماء تسيل بعد الانقلاب العسكري في يوليو 2013، ومع عدم اتفاقه مع رؤى وخيارات الأطراف المتصدرة في المشهد السياسي، انضم محمد لحركة أحرار الشبابية الثورية بحسب ما قالته شقيقته مي بعد قتله على يد قوات الأمن أثناء إحدى المظاهرات السلمية.
وحركة أحرار، تطلق على نفسها اسم التيار الثالث، وقامت على مبدئ رفض حكم العسكر، وحكم جماعة الإخوان المسلمين، ونظمت فعاليات ومسيرات مختلفة تحمل فيها شعار “يسقط كل من خان.. عسكر أو إخوان”، وتعلن فيها رفض إسالة الدماء من جميع الأطراف، ومنها تلك المسيرة التي خرجت في 30 أغسطس/آب 2013.
يحكي أحد شهود عيان يوم الحادثة، أن مسيرة الحركة خرجت من ميدان سفينكس أحد ميادين حي المهندسين بمحافظة الجيزة، ومن لحظة تحركها، واجهتها قوات الجيش والشرطة بإطلاق قنابل الغاز والرصاص الحي، إلا أن ذلك لم يمنع المشاركين من الاستمرار رغم قلة عددهم.
وخلال عودة المسيرة بعد رفض قوات الجيش استمرارها في مسارها، أُطلق رصاص خرطوش من مجهولين، لترد قوات الجيش بإطلاق مكثف للرصاص الحي تجاه المتظاهرين، ويصاب محمد فخر الدين وعبد الرحمن أحمد، ويسقطا مضرجين في دمائهما.
وكغيره ممن اصطفى لهم الله خاتمة الشهادة، عرف محمد بالصفات والسمات الحسنة، وانبرى الأهل والأحباب في تعدادها واستعراضها كلما حضرت سيرته، فهو الساعي بالخير، الحريص على إسعاد الجميع، الهين اللين الذي لا تقبل نفسه أن يكون سببا في حزن أحد، حتى من اختلف معه.
عرف محمد كذلك بسلامة الصدر، وحسن الظن بغيره وحرصه على التماس الأعذار، وتحفيزه غيره وتشجيعه له في مسارات الخير والنجاح، ومن ثم، ترك فقده فراغا كبير في حياة أسرته والمقربين منه، لما كان له من أثر وحضور فيها.
كتبت والدته المكلومة رسالة إليه، تبث فيها مشاعر الأمومة تجاه فلذة كبدها بعد فجيعتها به، وتعدد فيها مناقبه وسماته، وتصف حزنها على فراقه وحجمه الذي لو امتلأت به الأرض إلى السماء لفاض، لكنها تواسي نفسها كذلك بما رأته من مبشرات بعد استشهاده، وبحب الجميع له.
كان من آخر ما تحدث فيه خلال جلسة عائلية، أنه يأمل في أن يعود شمل عائلتهم للاجتماع والتواصل، بعد أن قل ذلك بسبب ما تمر به البلاد من ظروف، واقترح يوم السبت ليكون موعدا ثابتا لتجمع الأسرة، لكن الأجل عاجله، واجتمع أفراد العائلة دونه لأخذ عزائه يوم السبت التالي ليوم وفاته.
سطرت إحدى قريباته مشهدا مؤثرا تخيلت فيه محمد بحضرة جديه الذين رحلا قبل استشهاده، وهما يحتفيان بقربه وحضرته إليهم، ثم يستغربان هذا الحضور المبكر، ويسألانه عن السبب، فيحكي لهم ما تعرض له، الأمر الذي يستجلب استنكارهم وحزنهم، كيف لا وقد كان من أقرب الأحفاد لجدته.
تصف شقيقته مي، إحساسها حين ورود نبأ استشهاده، وكيف أنه كان “مؤلم جدا” كونه الأقرب والأحب إليها، فقد جاء نبأ الاستشهاد دون مقدمات، لكن فاق ذلك الألم، ما أحسته حين علمت بتلفيق التهم إليه، ونشر وسائل إعلام تابعة للنظام بأنه كان مسلحا، وقتُل في تبادل لإطلاق النار مع بلطجية.
تعددت تعبيرات المحبين عن حزنهم لفراق محمد وتأثرهم باستشهاده، ومن ذلك أن كتب له أحد أصدقائه أبياتا شعرية، من كلماتها “يا فخر كانت حياتك قدوة.. ستظل روحك في الطريق دليلا.. نم يا زكي الدين إنك خالد.. ما كان ذكرك يا أخي ليزولا.. نم يا شهيد الحق مسرورا فقد كان المنام عليك قبل ثقيلا.. وانعم بلقياك الرسول محمد وبوجه ربك راضيا مقبولا”.
فيما تستحضر ابن خالته، صفاته وسماته التي ظهرت وتشكلت في سنوات طفولته الأولى، فمحمد من بين أطفال العائلة الذين تجاوز عددهم العشرين، كان الأطيب والأكثر هدوءا والذي يتحمل الجميع، ومن ثم كان من آثار ذلك أنه لم يكن من طبعه تخوين غيره مهما فعل.
كان محمد، يرفض إسالة أي دم، سواء من الشرطة والجيش، أو من المتظاهرين باختلاف انتماءاتهم وتياراتهم، وكان يتأثر جدا بأخبار القتلى والدماء التي كانت تسيل منذ ثورة 25 يناير 2011، ولم يكن محمد منتم لأي حزب أو تيار، ويرفض الظلم أيا كان مصدره، ويغضب من أي تصرف يقلل من قيمة بلده وأهلها.
وجد البعض في عزائه البشرى الصادقة بما تمنوه له من مآل حسن، فكثافة الحضور وتنوعه وتأثره ودعائه له، والآيات التي تليت وما تركته من أثر في نفوس الحاضرين، واستحضار جميع المعزيين خصال الشهداء وهم يتحدون عن محمد وخاتمته.