“تاقت روحي إلى الجنة إني أحبكم كثيرا، ولكن حبي إلى الله أكثر” كانت هذه هي الوصية الأخيرة التي كتبها صاحب قصتنا إلى زوجته قبل استشهاده، وبات مشهد استهدافه من مشاهد التوثيق الأشهر لعملية فض اعتصام رابعة العدوية، وما جرى خلالها من أهوال وانتهاكات ارتكبتها قوات الانقلاب بحق المعتصمين.
محمد عثمان حلمي عثمان (28 عاما) من مواليد الأول من مارس/آذار 1985 بقرية كوم الفرج التابعة لمركز أبو المطامير في محافظة البحيرة، وكان الأخ الأكبر لخمسة، شقيقان و3 شقيقات، وتزوج قبل استشهاده بـ 3 سنوات، ورزق بولد أسماه فارس، كان لديه عامين حين فراق والده.
كان محمد يعمل مدرسا للغة الإنجليزية بمعهد أبو بكر الصديق الأزهري، وأتم حفظ كتاب الله وهو صغير، وأمضى مراحله التعليمة بالأزهر حتى تخرج من كلية اللغات والترجمة، حيث كان والده أزهريا معتزا بأزهريته فحرص على أن ينشأ ولده محمد على ذات الطريق.
استشهد محمد في فض اعتصام رابعة العدوية في الرابع عشر من أغسطس/آب 2013، بطلق ناري أسفل البطن، ووثق مشهد مقتله بالفيديو والذي كان من أبرز مشاهد توثيق مذبحة الفض، حيث نقلت الكاميرات ركضه هربا من الرصاص الطائش ليستهدف من قناص فيسقط على الأرض.
وحين حاول شخص آخر إنقاذه، وحمله لإجراء عمليات إسعاف له، استهدف هو الآخر ليسقط أرضا وهو أعزل، في لقطة عدت من أكثر اللقطات دلالة على ما ارتكبه العسكر من انتهاكات بحق المعتصمين السلميين العزل، ولتظل شاهدا على ما جرى، تفند كل محاولات التضليل والتحريف التي قامت بها وسائل إعلام الانقلاب.
كان محمد يبدأ يومه بصلاة الفجر، آخذا بوصية النبي صلى الله عليه وسلم ومتلمسا دعاءه “اللهم بارك لأمتي في بكورها”، وكان نشيطا يقدر الوقت وقيمته ولا يحب أن يضيعه فيما لا يفيد.
كان يحب العمل التطوعي ويخدم أهل قريته، ومن ذلك اتفاقه مع عدد من أصدقائه ممن يشاركونه ذات الهم والقصد، على شراء المواد الغذائية والضرورية بسعر الجملة، ويبيعونها لمن يحتاجها من أهالي قريتهم بسعر التكلفة، كما كان يشارك في حملات النظافة في بلده، ويقدم دروسا مجانية للطلبة المحتاجين.
كان بارعا في المجال التكنولوجي والكومبيوتر، ويقدم المساعدة لأي طالب في هذا المجال بصدر رحب في أي وقت ودون مقابل.
الشهادة كانت أمنية حاضرة، يعمل على تأهيل نفسه لها بشكل حقيقي، وذلك عبر ورد يحاسب به نفسه، ومن ذلك أنه كان حريصا على صوم التطوع، وخاصة يومي الإثنين والخميس، حتى حين صادف يوم زفافه يوم الخميس، كان صائما.
كان حريصا على تحري الحلال وأن يستبرئ لنفسه ودينه، يكتب وصيته ويحدثها كل يوم، ونقل عنه أن قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، بعد استهدافه، أخبر من هو قريب منه أن استلف 3 جنيهات من إحدى شركات الاتصالات، ليخبر أسرته فيردوها.
في حديثها عن ابنها، لا تكاد الأم “آمال” تسعفها الكلمات وهي تصف فلذة كبدها محمد و”أول فرحتها في الدنيا وأبر أبنائها وأحبهم إلى قلبها رغم حبها لجميع أبناءها”، وهو الذي ضحى بدمه وكل ما يملك من أجل رفعة شعبه وأمته ووطنه في قضية حق، كما تقول.
في رسالتها لقاتل، تقول أم محمد، “ماذا ستفعل في دعوة الأم المكلومة التي فقدت ثمرة فؤادها وهو في عز شبابه، حسابك قادم لا محالة، إن لم يكن في الدنيا فحتما في الآخرة”.
كان أهل القرية يقدمون محمد للإمامة والخطابة في مسجدهم، وقبل استشهاده بأيام، طلب من أخيه عاصم، أن يحضر له رقم الشيخ محمود، المكلف بالمسجد، وحين سأله عن سبب هذا الطلب، أجابه محمد بأنه سيوصيه بالاهتمام بالمسجد، لأنه ربما يقتل باعتصام رابعة في أي لحظة.
شفقة الوالد والحب الفطري، دفعت الحاج عثمان حلمي، لنصح ولده محمد بعدم الذهاب الى اعتصام رابعة العدوية، لما يعلمه من عدم تورع العسكر عن ارتكاب أي أمر في سبيل استمرار انقلابهم، لكنه أصر على الذهاب، فهو يراه “واجب وطني” للوقوف أمام من انقلبوا على ثورة يناير، وزيفوا الحقائق وكذبوا على الشعب المصري.
ومع عظم المصاب وشدته، إلا أن الوالد ألجم عاطفته بالصبر والرضا بقضاء الله، وكان معينه على ذلك استحضار ما تربي عليه في الأزهر، مضيفا بأن الحزن والأسى كان ممكنا في حال كان ابنه منحرفا أو ضالا، لكن محمد، حسب والده، كان صالحا مستقيما، إماما في مسجده مقيما لليل في بيته، بارا بأهله، نافعا لمجتمعه محبوبا في قريته.
حرص محمد على الشهادة وتلمس أسبابها لم يكن خافيا على من هم في دائرته، فقد كان كثير الحديث عنها، وعمن سبقه إليها، وكان دائما التعبير عن هذه الأمنية أمام زوجته وأسرته، في سبيل تهيئتهم لتقبل الخبر حين وقوعه.
وفي اتصال جرى بينه وبين زوجته، صبيحة يوم الفض عقب صلاة الفجر، كان الحديث منحصرا في أسئلة الاطمئنان المعتادة، حيث لم تكن مجريات أحداث الفض قد بدأت بعد، إلا أنه ومع بدء قوات الجيش والشرطة في محاصرة الميدان واستهداف المعتصمين، حاولت زوجته الاتصال به ولكنه لم يرد عليها.
بعدها بفترة وجيزة اتصل بها ليطمئنها عليه، ويطلب منها طمأنة والديه، وكانت هذه المكالمة الأخيرة، بينهما فبعد ساعتين اتصل بها رقم غريب يخبرها بأن محمد عثمان استشهد، لتنهار الزوجة المحبة، التي كانت تتمنى أن يكون الخبر إصابته وليس فقده، لكن القدر لم يكن على الشاكلة التي تمنت.
نظرات أخيرة هي ما ظفرت به الزوجة قبل دفن زوجها، ورغم الفاجعة والحزن والألم، إلا أن راحة وسكينة انتابتها بعد رأت وجهه مضيئا مستنيرا، حسب قولها، ليخفف ذلك من الألم والفراق.