لا يضره أن أفنى عمره في علاج مرضى وطنه والسهر على خدمتهم، واستثمار علمه وماله لصالح ضعفائهم ومحتاجيهم، حتى وإن كانت النهاية في المذبحة الصامتة بسبب إهمال متعمد في غياهب السجون، فالمثوبة مؤجلة لدار البقاء.
محمد السيد الغزلاني (60 عاما) كان طبيبا جراحا حاذقا يعرفه جميع أهل مدينته ومحيطها، من مركز كرداسة، التابع لمحافظة الجيزة، كان من رموز المدينة، كيف لا وهو صاحب أكبر مستشفى في نطاقها
اعتقل الدكتور “الغزلاني” في أكتوبر 2013، بعد أحداث مركز شرطة كرداسة بشهر تقريبا، وكان يعاني أمراضًا مختلفة، منها ارتفاع ضغط الدم والسكر والقلب والكبد، كما أصيب بشلل في الجزء السفلي من جسده، ما تسبب في أن يكون مقعدا.
تدهورت حالته الصحية بشكل كبير في السجن، وامتد الأمر قرابة شهر، وأوصى طبيب السجن بضرورة نقله إلى مستشفى لوضعه تحت الرعاية الفائقة، إلا أن إدارة المعتقل رفضت الطلبات المتكررة ولم تنقله، ودخل في غيبوبة تامة، نقل على إثرها إلى مستشفى سجن طره، حيث وافته المنية في 5 فبراير 2014.
عرف الدكتور محمد بنشاطه الطلابي في أول السبعينات، في كلية طب القصر العيني، حيث كان رفقة أبرز من صاروا رموزا سياسيين لاحقا، مثل عصام العربيان وعبد المنعم أبو الفتوح.
كان مرشحا لكرداسة في مجلس النواب على قائمة حزب الوفد عام 1984، واعتقل عام 1987 لمدة 15 يوما في انتخابات مجلس الشعب التي لم يكن مرشحا فيها آنذاك، ثم تفرغ لمتابعة مستشفاه ومرضاه.
كان الدكتور محمد السيد حريصا على الصلاة والدعاء، وكان معروفا بحب الفقراء، من مواقفه التي حكاها أحد محبيه، أنه كان برفقته حين ناداه رجل عجوز بسيط الحال بشدة، وقال له أنت بتتهرب مني يا غزلاني، ليجيبه الدكتور في تواضع وبرفق، لا والله يا عم إبراهيم، وأقبل عليه يحتضنه ويرى حاجته.
بعدها قال له الرجل العجوز، أنا تعبان جدا يا دكتور، فأسرع الدكتور محمد إلى سيارته وجاء للرجل بمجموعة من الأدوية، وناولها للرجل الذي ألقاها في وجه الدكتور، وقال له، إنت بتديني علاج؟.. ألا يحتاج هذا العلاج إلى طعام، أم آخذه هكذا وأموت.
توقعت مع شدة الرجل وغلظته أن يشيح الدكتور عنه ويتركه، إلا أن عطفه زاد، وربت على كتفه وقال له، صحيح لابد أن تأكل يا عم إبراهيم، واستدار وأعطاه في خلسة بعض المال في يده، وقال له ادع لي يا عم إبراهيم، فرد الرجل “ربنا يسترك يا ابني ويغنيك”، ثم تركه ومضى.
كان مع همه بالناس واهتمامه بحالهم وسعيه الدؤوب لقضاء حوائجهم وعلاج مريضهم، كان له حال مع الله يعرفها من جاوره في صلاة أو شاركه في اعتكاف، أو رآه واقفا يؤدي سنة قبلية أو بعدية، وكان ذلك الحال من أسباب حب الناس له.
ينتسب الدكتور محمد إلى عائلة عمار التي قدمت الكثير من التضحيات، حيث فقدت 4 من أبنائها، أولهم الدكتور محمد، والثاني هو سعيد يوسف صالح، ابن شيخ كرداسة الأول والذي نفذ فيه حكم الإعدام في 4 أكتوبر 2020، ومعه أيضا الشاب شحات الغزلاني، والشاب أحمد محمد الشاهد (صهر العائلة).
كما يقبع 17 معتقلا من العائلة حاليا في السجون، بخلاف 9 محكومين بالإعدام ومطاردين داخل مصر وخارجها، وقد تعرضت الكثير من بيوت العائلة للحرق والتدمير.
لم يرد الدكتور محمد سائلا، ومن ثم كان كل طالب معروف يتعشم في كرمه بشكل كبير، حتى الأغنياء كانوا يقبلون عليه ولا يتحرجون من طلب المعروف منه، وكان كل من عامله، وهم بالآلاف يتسرب إليه شعور بأنه يلقى معاملة خاصة، ولكل واحد منهم حكاية تبرر له شعوره ذلك.
كانت مستشفى الغزلاني التي يمتلكها الدكتور محمد السيد، تعتبر أكبر مستشفى في نطاق مدينة كرداسة، وتعمل على مدار اليوم وتخدم الآلاف من المرضى والمرتادين، إلا أن قوات النظام أغلقتها وكسرت محتوياتها عقب اقتحام مدينة كرداسة.
كان حسب شهادة أحد شباب مدينته، بشوشا مهذبا هادئا مجاملا راقيا، ورغم كونه أحد رموز مدينته في العمل الدعوي والنشاط الخيري، إلا أنه لم يكن منتم إلى أي تنظيم وإن حسب على بعضها، فالجميع كان يراه منهم لبساطته وإخلاصه وحبه للجميع.
يحكي أهل مدينته عن أصالته وخسة من ظلموه، أنه كان يستقبل جنود مركز كرداسة في مشفاه ويقوم بمعالجتهم وتوفير الطعام والملبس لهم قبل إخراجهم من المدينة خلال الاشتباكات التي وقعت في كرداسة بعد مجزرتي رابعة العدوية والنهضة.
وما كان رد وزارة الداخلية لهذا الجميل إلا بإلقائه في غياهب السجون، وهو الذي أنشأ أول مستشفى في كرداسة تخدم جميع قرى ومدن المركز، بعد أن فشلت الحكومات المتعاقبة في إنشاء مستشفى مركزي يستطيع خدمة المركز.
كانت جنازته مهيبة حضرها الآلاف من محبيه، رغم كونها أقيمت في ساعة متأخرة من الليل ورغم إرهاب النظام وتهديده لم سيشارك، وظل المشاركون يدعون له ويرددون هتافات منددة بما وقع على الدكتور محمد من ظلم وعنت أدى في النهاية إلى وفاته.