شاب مصري سكندري أزهري حافظ لكتاب الله متفوق في دراسة، إمام وخطيب لمسجد حيه، حسن السيرة بين جيرانه وذويه ومعروف لديهم بعمل الخير والإحسان للغير، وكان صاحب فضل على كثير منهم، كيف لا وهو من كان يعلم أولادهم اللغة العربية ويحفظهم كتاب الله.
محمد سيد أحمد إسماعيل (28 عاما) كان مشهورا باسم محمد الازهري، ولد في مدينة الإسكندرية وسكن في حي الرمل منها، وهو الشقيق الأصغر لثلاثة أشقاق.
كان متفوقا في دراسته، تخرج من كلية التربية في جامعة الأزهر وحصل على تقدير جيد جدا مع مرتبة الشرف، ليكمل مساره العلمي ودراسته العليا في تخصصه، ويعين مدرسا في جامعته، حتى وفاته شهيدا ضمن ضحايا مذبحة المنصة (النصب التذكاري) قرب ميدان رابعة العدوية في 27 يوليو/تموز 2013.
شارك محمد الأزهري في ثورة 25 يناير 2011 بمحافظته الإسكندرية منذ أول فعالياتها، واستمر مواظبا على تلك المشاركة حتى تنحي الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك.
حفظ محمد القرآن وهو غض صغير، وحصل على إجازة في تلاوة وتعليم القرآن وأعقب ذلك بالتعليم الأزهري، ما أهله للإمامة والخطابة بمسجد الفردوس القريب من منزله، كما كان يحفظ أبناء حيه القرآن الكريم، ويحرص على تعليمهم اللغة العربية بشكل سليم.
يحكي والده عن بره وخلقه الحسن، ويستذكر إحساسه بالمسؤولية وإدراكه لمصلحته وما الذي عليه القيام به، ومن ثم عدم احتياجه للكثير من النصح والتوجيه.
حفظ كتاب الله في سن صغيره، جعل منه مثالا ونموذجا يحتذى، ويقدم من قبل الآباء لأبنائهم، وفتى محبوبا بين الكبار والصغار، فقد كان إلى جانب ذلك، خدوما معطاء ولا ينتظر في مقابل ذلك المقابل.
وفي ذلك، تقول والدته حسنية الشاعر، إنها كانت تعلم بعودة محمد من عمله، حين تسمع صوت الأطفال في الشارع وهم يتسابقون لتحيته والسلام عليه في فرح وسرور، مرددين “الأستاذ محمد جاء”، كيف لا وهو من يحرص على تحفيظهم القرآن بحب، ويقدم لهم الهدايا والجوائز في سبيل ذلك.
تتسأل الأم المكلومة في حزن وأسى، هل يا ترى من يحبه الأطفال بهذا الشكل، ويعرفه الجميع إنسانا مسالم بما تحمله الكلمة من معنى، هل يعقل أن يكون قاتلا إرهابيا؟.
أما شقيقه الأكبر إبراهيم، فيحكي عن آخر ما جمعهما، حين اتصل بشقيقه محمد وهو معتصم بميدان رابعة العدوية، وطلب منه العودة لصحبته إلى محافظة دمياط لشراء أثاث منزله حيث كان يستعد للزواج، فاستجاب لمطلبه رغم تعلقه بالميدان، وقضى معه يومه التالي كاملا في ذلك.
وحين طلب منه المكوث حتى وصول الأثاث، رفض رفضا قاطعا وأخبره بأنه لابد أن يعود إلى الميدان، خاصة بعد سماعه خطاب التفويض من قبل رئيس الجيش حينها، عبد الفتاح السيسي، فقد كان يتوقع حدوث أمر للمعتصمين، معتذرا بأن أبناء عمومتهم وباقي أقاربهم سيكونون معه عند وصول الأثاث.
تدلي الوالدة بدلوها في حكاية القصة، فتقول إن ابنها بعد الانقلاب العسكري ذهب للاعتصام في ميدان رابعة العدوية بالقاهرة، ولم يعد إلا مع بداية شهر رمضان ليؤم الناس في الصلاة كما اعتاد بمسجد الفردوس.
وبعد طلب السيسي التفويض للقضاء على المعتصمين والمتظاهرين الرافضين لانقلابه العسكري، غادر محمد الإسكندرية وقرر العودة إلى اعتصام رابعة خشية حدوث مكروه للمعتصمين، وبالفعل عاد يوم الخميس في 25 من يوليو 2013.
ظلت الأسرة على تواصل معه، يتبادلون الأخبار، هو من ناحيته يطلعهم على كل جديد من اعتصام رابعة، وهم بدورهم يحكون له ما يحدث في محافظته من حراك وما يتخلل ذلك الحراك من مواجهات مع الأمن، وسقوط ضحايا بسبب اعتداءات الداخلية والبلطجية.
استمر التواصل حتى صباح يوم السبت 27 يوليو، وفي تمام الساعة التاسعة صباحا، طلب خلال اتصال هاتفي ممن كان على تواصل معه أن ينهي المكالمة، فالمؤشرات تشي باعتداء مدبر من قبل الداخلية، وبعد ساعة اتصلوا عليه للاطمئنان عليه، لكنه لم يرد.
شعروا بأن أمرا ما قد حدث، فسافر أخوه وأولاد عمه إلى القاهرة للاطمئنان عليه والبحث عنه، لكنهم لم يجدوه، فبحثوا عنه بين الشهداء والمصابين الذي سقطوا في ذلك اليوم فلم يجدوه أيضا، ليبحثوا عنه في المستشفيات القريبة من الميدان، إلا أنهم لم يعثروا له على أثر.
توقعوا أن يكون قد اعتقل، فبادروا بالبحث عنه في الأقسام وسؤال المحامين، إلا أنهم لم يجدوا جوابا، ليذهبوا بعدها إلى مشرحة زينهم للبحث عن جثمانه، ولم يجدوه في البداية، حتى أخبرهم أحد الأشخاص أن هناك جثث جديدة وصلت المشرحة.
ذهبوا إليها مرة أخرى مساء الأحد 28 يوليو وعثروا على جثمانه، وعندما أبلغ أخوه إبراهيم والدته بالخبر، تقبلت الوالدة الخبر في رضا وقالت لابنها محمد إنها سعيدة بنيله الشهادة التي كان يتمناها.
تؤكد والدته أنه كان يطلب منها أن تدعوا له بالشهادة، وبالتحديد بعد ذهابه إلى رابعة وكان ينادي على والدته “إزيك يا أم الشهيد”، فيما يضيف شقيقه إبراهيم بأن محمد استشهد بعد إصابته بثلاث طلقات، اثنتين في الكتف والثالثة في الرقبة.
قتل محمد على يد الداخلية والبلطجية ضمن 80 شخصا قضوا في هذه المذبحة، حسبما أعلنته هيئة الطب الشرعي حينها.
بينما وثّقت شهادات أطباء المستشفى الميداني، أن المستشفى استقبل في تلك الليلة أكثر من 50 حالة قنْص في الرأس، و150 حالة إصابات مميتة ونزيف حاد، و50 حالة ماتت في الطريق إلى المستشفيات خارج الميدان، و4000 حالة إصابة ما بين كدمات وخرطوش واختناقات وجروح قطعية، وعميقة، ورصاص حي وكسور.
يقول والده: محمد كان عند النصب التذكاري، وعندما رأى سقوط شخص برصاص القناصة ذهب لينقذه وبينما هو يحاول رفعه استهدف من قبل قناص، وعندما حاول شخص ثالث إنقاذهم تم استهدافه أيضا.
يتعجب الوالد من هذا الفعل، ويتساءل عن دوافع القناص الذي استهدفهم ومن أعطاه الأوامر بقتل المتظاهرين العزل، وهل يا ترى من الممكن أن يكون مصري الجنسية ويفعل ذلك.
لم يثبت الطبيب في شهادة الوفاة السبب الحقيقي لها، حسب ما ذكره الوالد رغم أن محمد كان واضح إصابته بأربع رصاصات، وقد تعهد بإنشاء دار لتحفيظ القران يهب أجرها لروح ابنه المحب للقرآن.
كانت جنازة محمد مهيبة، تجمع فيها الآلاف من محبيه من كل حدب وصوب من الإسكندرية، حيث بكوا شهيد القرآن والأزهر صاحب الصوت الندي، وبلغ بهم التأثر مبلغه وهم يسمعون الوصية التي كتبها قبل وفاته.