فهمي الديب.. ابن العشرين

“اللي هتجوزها مالهاش مواصفات في الدنيا”.. كان ذلك رده على سؤال والدته وأخواته عن صفات من يرغب في الارتباط بها، وكأنه كان مستشعرا دنو أجله ومستبعدا أن تستقر حياته في هذه الدنيا.

فهمي أحمد عبد المعطي الديب (20 عاما) من قرية صافور التابعة لمركز ديرب نجم بمحافظة الشرقية، لكنه كان يقيم بمدينة العاشر من رمضان، ولد في 22 يونيو/حزيران 1993، وكان طالبا في قسم إدارة الأعمال بالمعهد التكنولوجي في المدينة، واستشهد في فض اعتصام رابعة العدوية، حيث أصيب بالرصاص الحي.

نشأ فهمي في أسرة متدينة مهتمة بالشأن العام، والده أحمد عبد المعطي كان يعمل مدرسا للرياضيات بمدرسة الثانوية للبنات في العاشر من رمضان، ووالدته ربة منزل، وهو ولدهما الوحيد، إضافة إلى 3 شقيقات، كان ترتيبهم الثالث بينهن، كما أن أعمامه عرفوا بنشاطه الدعوي والتربوي.

تميز فهمي بالأخلاق الحميدة والصفات الحسنة، وكان مشهودا له بذلك من جميع أفراد أسرته ومن عرفوه، كما كان سمحا لينا، محبا للخير، عطوفا على غيره، حنونا على والدته وأخواته.

يصف والده، علاقته به وبوالدته بأنها لم تتوقف على علاقة الابن بوالديه، وإنما كانت أوسع وأشمل، فهو الصديق والأخ، ويستذكر في هذا السياق وهو لا يكاد يتحكم بعبراته، كيف أنه كان يستقبله عند دخوله المنزل بالأحضان، ويربت عليه، ويسأله عن حاله، مضيفا “كأني أنا ابنه وليس هو ابني”.

في علاقته بوالدته وأخواته البنات كان محبا حنونا شفوقا عطوفا، فهو لا يجيب نداء والدته إلا بقوله “نعم يا عين فهمي”، ولا يكاد يخاطب أخواته بأسمائهن، حيث يفضل الاستعانة في ذلك بالأوصاف والعبارات المقربة إلى نفوسهن، ومن ثم كان تأثرهن شديد باستشهاده وفقدهن لهذا الحنان الذي لا يعوض، حسب وصفهن.

عرف فهمي كذلك بهدوء طباعه، وحبه للطاعة، فهو لا ينام إلا على وضوء، محافظا على الصلاة في وقتها، محبا للمساجد، بارا مطيعا لوالديه، مسارعا لقضاء حوائجهم، ولا يقبل بأن يتكلف أحدهما عناء ومشقة أي أمر وهو موجود.

يقول والده، من “الواضح أن ما بين فهمي وبين الله أمر كبير، حتى يصطفيه الله للشهادة”، مشيرا إلى أنه كان معتادا على إغلاق غرفته عليه، والخلوة الكثيرة مع ربه، وكان يستيقظ لصلاة الفجر ويوقظهم لها.

تقول والدته، السيدة عائدة محمد طلبة، إن فلذة كبدها، كان محبوبا من الجميع منذ صغره، الكبير منهم والصغير، ولم يسبق أن أدخل نفسه في مشاكل، كما لم يصدر عنه أي لفظ خارج، ومجرد أن يسمع أذان الصلاة، يترك ما بيده ليذهب إلى المسجد.

كما كان فهمي مستشعرا للمسؤولية منذ صغره، فرغم حال الأسرة الميسور وعدم حاجتهم، إلا أنه كان حريصا على أن يبدأ حياته العملية مبكرة، حيث بدأ العمل وهو في السنة الثانية الإعدادية (14 عاما)، وحين حصوله على مرتبه نهاية الشهر، يسعد به جدا، ومع ذلك كان لا يصرفه على نفسه بل يشتري لشقيقاته ما يحتجن، ويعطي المال لوالدته.

في حزن شديد، تقول شقيقته رفيدة التي كانت تكبره بـ3 أعوام: “لا يوجد من الكلام ما يوف شقيقنا حقه، فقد كان بارا بوالديه، حنونا علينا حنانا لن نجد له عوض، كما كان قائما لليل قارئا لكتاب الله “.

كان حريصا على مشاركة شقيقاته همومهن، وعلى مساعدتهن في قضاء حوائجهن من الأسواق والمتاجر، وكان حسب شقيقته، صاحب علاقة مميزة ومختلفة، مع كل واحدة من شقيقاته، ويحب أبناءهن وملاعبتهم وملاطفتهم.

تستذكر شقيقته، أنه كان حريصا على قراءة سورة الكهف كل جمعة، وتعهدهم بها لكي يقرؤوها، وكان متواضعا لا يتكبر على أحد، وكان له ورد يومي يقرأه قبل نومه، ولديه مصحف لا يفارق سريره، وإذا دخل إلى البيت سلم على الجميع.

كان دائما يقبل يد والديه ورأس أخواته البنات، وكان شديد الحب لأبناء أخواته، كما كانوا يبادلونه الحب، حتى أحدهم واسمه يوسف، الذي لم يتجاوز 6 سنوات، كان يقول “أنا شهيد زى خالو.. هو شهيد رابعة وأنا شهيد اﻷقصى”.

تحكي شقيقته رفيدة عن حديثه الأخير لها في الهاتف وهو في الميدان، حين قال لها “قبليلي ابنتك منة وأخبريها أن خالها فهمي يحبها وأخبري الجميع أني أحبهم”، فتوجست خيفة من طريقة كلامه، وقالت له “لماذا تتحدث بهذه الطريقة.. سترجع لنا بالسلامة إن شاء الله”، قال لها “استودعيني عند الله ولن يضيعني”.

كان فهمي حاضرا في اعتصام ميدان رابعة معظم أيامه، وكان موجودا في يوم الثلاثاء السابق للفض مع والديه، ثم رجعوا جميعا إلى المنزل، واستيقظت الأسرة على نبأ فض الاعتصام، حيث اتصلت شقيقة فهمي للاطمئنان عليهم، فأخبروها أنهم عادوا من الميدان، لكن حين تلمسوا فهمي لم يجدوه، فعلموا أنه سارع للعودة إلى الميدان بعد معرفته بخبر بدء الفض.

هاتفه والده حينها، فأجابه بأنه في طريقه إلى الميدان، وقد وصل بالفعل إلى القاهرة حينها، فرد الوالد بأن الميدان يفض وهناك إطلاق نار، فكان جواب فهمي، “ولهذا ذهبت.. لن نترك أهل الميدان وحدهم، أنا في الطريق ولن أعود”.

كانت عبارات فهمي حاسمة في إصراره على المضي قدما للالتحاق بالميدان ومن فيه، لكن الأسرة لم تكن تعلم أن جزمه بعدم العودة، كانت حقيقته أنه لن يعود بالفعل إلا وهو محمولا على الأعناق شهيدا.

يحكي والده عن لحظة معرفته بالخبر، حيث أنه بعد متابعته بالهاتف أكثر من مرة، جاءه اتصال من رقم هاتفه، فحدثته نفسه أن هذا اتصال من مرافق يخبره باستشهاد ابنه، وتباطأ في الرد، وحين فتح الخط وأجاب، صدق حدسه وسمع من الطرف الآخر، “فهمي أحمد عبد العاطي، البقاء لله”.

لم يجزع الوالد ولم ينهار، واسترجع وحمد الله، ولم يكن هناك مجال للذهاب، فاتصل على شقيقيه حيث كانا في الميدان، وكانا حينها مرافقين لجثمان عاصم ابن عمة فهمي الذي استشهد هو الآخر، ووجدوا الجثة في غرفة مجاورة واستلموها.

ظل فهمي في ذاكرة أهله ومحبيه، حيث كان حاضرا بروحه في جنبات منزله كما أخبر والده، كما قامت رابطة أسر شهداء ومعتقلي الشرقية بإحياء ذكراه في أعوام تالية، كما ذكره المرابطون في الأقصى، ورفعوا اسمه بين جنباته.

تم تشييع جنازة فهمي مع ابن عمته عاصم الذي استشهد كذلك خلال الفض، وكانت جنازة مهيبة شهدت مشاركة حشود غفيرة هتفت باسمهما وبالتأكيد على الوفاء لدمائهما، كما شهدت الجنازة مشاركة واسعة للنساء.